ليست طهران، أو لعلها لم تعد خارج الكرة الأرضية، كوكباً قائماً بذاته وله مداره، كذلك فليست الآن خارج الزمان والصراعات التي يستولدها مشروع “النظام العالمي الجديد” لتكريس الهيمنة الأميركية المطلقة.
ما زالت للغة في طهران فرادتها، فمفرداتها مختلفة، مميزة، وذات عبق تاريخي يتصل بفجر الإسلام، لكنها تتدرج يومياً في اتجاه أن تصبح مفهومة وعصرية منتقلة من السماء إلى الأرض، من المطلق إلى المادي المحسوس.
وعلى امتداد خمسة أيام تسنى لنا أن نلتقي أو أن نستمع إلى آراء معظم رجال الصف الأول في الجمهورية الإسلامية، في مقدمتهم القائد خامنئي والرئيس هاشمي رافسنجاني ورئيس مجلس الشورى الشيخ الكروبي ووزير الخارجية علي أكبر ولايتي ونائبه محمد علي بشارتي، ثم “القطب الآخر” السيد محتشمي وبعض من يقول قوله، إضافة إلى مجموعة من المثقفين و”المهاجرين” والدبلوماسيين وبينهم من هو “خبير محلف” في شؤون “دولة الإسلام”.
هنا حصيلة الانطباعات والمناقشات واللقاءات الصحافية المباشرة ومعها محاولة لقراءة “الخطاب السياسي” الجديد في طهران، كما تجلى عبر “كونفرانس بين المللي حمايت أز انقلاب إسلامي مردم فلسطين” أي ما ترجمته “المؤتمر الدولي لدعم الثورة الإسلامية للشعب الفلسطيني”.
الفراسة ليست ضرورية للتحقق من أن الثورة الإسلامية في إيران تقاتل الآن على خط الدفاع، وإنها قد تخلت – مضطرة – عن كثير من أهدافها الغالية وبينها تصدير الثورة إلى المستضعفين في كل أرض، بأمل تغيير الكون، ودائماً تحت راية الإسلام.
ولا يكابر المسؤولون الإيرانيون بل يقررون بالتحولات… يقول الشيخ الكروبي:
“- لقد اضطررنا إلى اتخاذ بعض المواقع الدفاعية في ظل التحولات التي تجتاح العالم والانتصار المجاني الذي تحقق للولايات المتحدة في الخليج مباشرة بعد انهيار عدوها العقائدي في المعسكر الاشتراكي وصولاً إلى مركزه: الاتحاد السوفياتي… ثم أن هناك خسارتنا الفادحة بغياب قائدنا العظيم الإمام الخميني، بقدرته الهائلة على تحريك الشارع ونفوذه غير المحدود ومكانته التاريخية الفريدة، إننا ما زلنا على إيماننا، والقائد خامنئي يواصل النهج ذاته، ولم نقدم أية تنازلات، شعاراتنا هي هي وهتافاتنا أيضاً. إلا أن تكتيكاتنا قد اختلفت، لنقل إن مواقفنا الفكرية ما تزال هجومية أما حركتنا السياسية فتأخذ بالاعتبار التحولات التي شهدها العالم، ثم إننا محاصرون، فالقوى الاستعمارية تسيطر على وسائل الأعلام وتحاول تشويه صورة الثورة، وتضغط علينا لتجميد الزخم الثوري في الجمهورية”.
يضيف رئيس مجلس الشورى، الذي اتخذ مقراً له خلال المؤتمر في فندق الاستقلال ذاته، إلى جانب ضيوفه الكثر:
“- المؤامرات علينا مستمرة، وهم يتعاملون معنا بأشد الأساليب، ويضغطون على الدول في مصالحها لكي لا تقف معنا، ويقدمون الدعم لكل القوى المناوئة ويحرضون الناس على الثورة بتخويفهم منها، ونحن نقاوم وما زلنا صامدين دفاعاً عن هويتنا. ومن أسف أن الشعوب الإسلامية لا تقترب من الاتحاد. لو اتحد المسلمون لكتبنا تاريخاً جديداً للإنسانية”.
يستدرك الشيخ الكروبي فيقول بنبرته الهادئة المتكاملة مع ملامحه الدقيقة ولحيته الحسنة التشذيب، وهندامه البسيط: “- بصراحة، لسنا مرتاحين لأن تمسك الولايات المتحدة الأميركية بزمام العالم. صحيح إننا لم نحزن لسقوط الشيوعية التي كنا نعتبرها عدونا الايديولوجي إلا أن تعاظم الهيمنة الأميركية خطر علينا وعلى العالم كله. ويهمنا فعلاً ألا يتهاوى الاتحاد السوفياتي أو يتفكك. نحن مع تدعيم وحدة الاتحاد السوفياتي الذي لم يعد عدونا. كنا ضد الشيوعية لا ضد الاتحاد”.
*المعاني ذاتها وردت على لسان نائب وزير الخارجية محمد علي بشارتي في لقاء بمكتبه الذي ما زال يحمل بعض آثار العز الإمبراطوري، وإن تعززت الحراسة على المدخل بالحواجز الإسمنتية درءاً لمخاطر الاغتيال نسفاً بالسيارات المفخخة…
قال الرجل المتين البنية والذي تشي ملامحه بما تحمله من تعذيب خلال فترة سجنه، كمناضل، في عهد الشاه:
“- للجمهورية الإسلامية موقف أصولي مبدئي ثابت من الإمبريالية والصيهونية وإسرائيل والرجعية… ولها موقف سياسي عملي مبني على المصالح والعلاقات بين الدول، لنأخذ فرنسا مثالاً: كانت تساعد المتآمرين علينا وتوفر ا لدعم لصدام حسين في حربه ضدنا، فلما بدلت موقفها منا بدلنا بدورنا، مثال آخر: سلمان رشدي، إننا ما زلنا نكفره، وهذا موقف أصولي ومبدئي، لكن بمقدار ما تبدل موقف بريطانيا منا في اتجاه التعاون تجاوبنا فبدلنا. مثال ثالث: الاتحاد السوفياتي.. كنا نهتف بالموت له كل يوم، اليوم وبعد سقوط الشيوعية لا نطلب له الموت، بل نحن حريصون على وحدته إلى أقصى حد..”.
أضاف بشارتي، بعد لحظة، وهو يشير إلى مقعدي في مكتبه:
“- مكانك هنا جلس قبل فترة رئيس وزراء أذربيجان السوفياتي، الذي جاء يطلب مساعدات عسكرية واقتصادية وسياسية منا. أبلغناه بوضوح وصراحة إننا ضد الانفصال، ومع تحصين وحدة الاتحاد السوفياتي، وإننا لا يمكن أن نساعد أذربيجان إلا عبر موسكو وبالتنسيق معها. بعد أربعة أيام تلقينا رسالة شكر من الرئيس السوفياتي غورباتشوف.
“أكثر من هذا، لقد كنا ضد “الانقلاب” الذي حاول رجال العهد القديم أن يقوموا به في موسكو. كثيرون استغربوا موقفنا، لكن مصالحنا مع وحدة الاتحاد السوفياتي. لو انفصلت الجمهوريات الإسلامية ستتأذى إيران كثيراً، وسنواجه جميعاً مشكلات لا تنتهي، تبدأ بالحدود وقد تمتد لتشمل محاولات التخريب التي قد تمارسها الولايات المتحدة أو إسرائيل عبر هذه الجمهوريات التي ستكون ضعيفة وفقيرة لو هي انفصلت، فهي لا تستطيع أن تستمر دولاً بالاعتماد على موادرها الذاتية وحدها”.
سألت المناضل الذي انتدبته الثورة للعمل في المجال الدبلوماسي: – هل انتهى زمن الثورات؟!
لم يفاجأ، لم يرتبك، اتسعت ابتسامته فاتسعت معها الجزيرة البيضاء داخل غابة لحيته الكثة السوداء، ثم قال بهدوء: “- في هذا القرن، أجل، لم يعد ثمة مجال للثورات. لسوف تستمر الهيمنة الأميركية ما تبقى من سنوات حتى القرن الحادي والعشرين، وبعدها يبدأ التشقق داخل الغرب الذي سينقسم بحسب عملاته القوية إلى دولار ومارك وين، ومع هذا التشقق تتوفر الفرصة لتفجر ثورات المستضعفين والمظلومين”.
في افتتاح “المؤتمر الدولي لدعم الثورة الإسلامية لشعب فلسطين”، كانت خطب المسؤولين الإيرانيين أقل حدة مما توقع “المراقبون”، وكانت مطالبهم متواضعة ومعقولة بكل معيار في القاعة العادية لمجلس الشورى والتي لا فخامة تميزها، وحيث تعاني مقاعد النواب من القدم، فوجئ أعضاء المؤتمر (وهم خليط من رجال الدين المسلمين والمتدينين والثوار المتقاعدين أو الجدد والسياسيين المحترفين) بوجود فرقة موسيقية كاملة لها قائدها وأمام كل من عازفيها ورقة نوتة. ولقد عزفت الفرقة النشيدين الإيراني والفلسطيني (افتراضاً)، ثم قدمت أغنية جماعية وإن تميز فيها مطرب معروف بإنشاء مقاطع خاصة.
*ولما جاء وقت الكلام، ألقى رئيس الجمهورية الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني خطاب “رجل دولة” فيه من قوة الموقف أكثر مما فيه من الرغبة في الشجار: شجب السياسة الأميركية العدائية، وانتقد محاباتها لإسرائيل، وحذر من أن يدبر لحادث كبير يتهم بهذه العرب بالإرهاب، ولعن كمب ديفيد المشؤومة، واستنخى المؤتمرين “نحن أبناء القرآن، أبناء الإسلام، أبناء الكعبة، أبناء كربلاء، أبناء القدس”..
وبعدما ذكر بالحرب التي شنها صدام حسين لمدة ثماني سنوات، وما ألحقته بإيران من تدمير وخسائر فادحة في الأرواح والأرزاق، أبلغ المؤتمرين بخبر مؤتمر مدريد كحلقة جديدة في التآمر الأميركي على العرب والمسلمين، وفلسطين وبيت مقدسها أساساًز
** بعد انتهاء المؤتمر، وربما لعدم إساءة تفسير مقرراته، استدعى الرئيس رفسنجاني الوفد البرلماني السوري المشارك فيه، لمقابلة خاصة أبلغه خلالها ما مفاده: “إننا نثق بحكمة الرئيس الأسد وصلابته وصدق وطنيته ونحن نقدر حراجة الظروف التي تحيط بالعرب عموماً وسوريا خصوصاً، ونعى جسامة الضغوط التي تمارس عليها وتلزمها بالذهاب إلى مدريد، نعرف إن لا خيار. وثقوا أن موقف إيران من سوريا لن يتغير ولن يتبدل كائنة ما كانت النتائج. في أي حال، فليس نجاح مؤتمر مدريد مضموناً، خصوصاً وإنه أشبه بحرب حقيقية… وفي حال الفشل ستكون إيران جبهة خلفية واحتياطاً استراتيجياً لكم”.
*في خطاب الختام لأعمال ا لمؤتمر، وهو مكتوب، غابت عيارات التكفير والتخوين والتحريم، واستمر التركيز على ضرورة دعم الانتفاضة داخل الأرض المحتلة وتدعيم وحدة المسلمين مع التوكيد على … “أهمية دور البرلمانات”:
*إن ما أدى إلى أن يجتمع نواب البرلمانات الإسلامية إلى جانب ممثلي الفصائل والشخصيات الثورية والجماهيرية البارزة في العالم الإسلامي في هذه الحقبة التاريخية، بعد مؤشراً واضحاً على أن تنوع آرائنا وأذواقنا من شأن أن يتضاءل بفضل عزمنا المشترك لاركاع العدو وتحرير القدس الشريف”.
المرحلة الجديدة “مشؤومة”، والمؤتمر “بحد ذاته وبغض النظر عما يمكن إعلانه من نتائج يعتبر أكبر مكسب لمؤسسيه والمشاركين فيه… والأمل، مرة أخرى، في البرلمانات: “نحن تواقون إلى أن تتعاون البرلمانات الإسلامية في ما بينها لاتباع نهج سياسي وثقافي واقتصادي موحد في سبيل تحقيق الطموحات الإسلامية السامية…”.
والبرلمانيون غير الثوار، حتى لو صار بينهم من ينتمي إلى بعض الجماعات الإسلامية. وكمثال فإن رئيس البرلمان الأردني عبد اللطيف عربيات (وهو مسؤول كتلة النواب الإسلاميين فيه) لم يغفل الاشارة إلى متانة العلاقة في “اردن الحشد والرباط” بين “القائد” – أي الملك حسين – والشعب، ولا إلى حقيقة “إننا نعمنا بانتخابات حرة”، ولا إلى ما أنزل بالأردن من عقاب على الصعد الاقتصادية والسياسية نتيجة موقفه من حرب الخليج!!
أما البرلماني الآتي باسم “الثورة” الأخرى، رئيس المجلس الوطني الفلسطيني الشيخ عبد الحميد السايح، فقد قدم مطالعة في ضرورة “تقدير الأوضاع” وألقى المسؤولية على العرب والمسلمين في ما أصاب فلسطين منذ 1936 وحتى اليوم: “العجين أفسد الخميرة”، والعجين هنا هم العرب! وانتهى مطالباً المؤتمر بضرورة إصدار قرار برفع الحصار عن العراق.
وحين حاول بعض المشايخ والقياديين الفلسطينيين التصدي للشيخ السايخ، تدخلت الرئاسة فضبطت الهائجين، وقمعت الذين حاولوا التمادي، بتهذيب صارم.
** في اللقاء مع بشارتي لم يستهجن توصيف مؤتمر فلسطين بأنه تظاهرة سياسية وإعلامية لا غير، وقد ضحك كثيراً حين وصفت الخطب بأنها “معتقة” بمعنى إنها تنتمي إلى عصر آخر، الخمسينات مثلاً. قال وهو يتحسس بعض أظافره المتجددة، إذ اقتلعت الأصلية خلال سجنه: “- هذا أقصى ما نستطيعه خلال الظروف السائدة. ليس بالإمكان أبدع مما كان، كما تقولون. من المفيد تجميع القوى ورفع الصوت بالاعتراض. قد تسمي هذا “ربط نزاع”، وقد تسميه أعداداً لخط خلفي. لا بأس. هذا أفضل من لا شيء”.
في الحديث عن مؤتمر مدريد قال بشارتي: “- يفترض أن يكون احتفالياً، وبعده يحدد مكان المفاوضات الثنائية ومواعيدها. وهو مرشح لأن يصل إلى الحد الأقصى الممكن. وفي ما هو رائج من معلومات فإن الأميركيين يحاولون شراء صمت سوريا أو أحراجها. إنهم يقولون إنهم سيتركون لها لبنان كمدى حيوي، وسيضغطون على إسرائيل لكي تعيد لها الجولان. ليس على الفور، ولكن عبر مفاوضات طويلة تستغرق بعض الوقت. مقابل ماذا؟! مقابل أن تتخلى عن الفلسطينيين”.
وحين جاء ذكر منظمة التحرير ورئيسها ياسر عرفات، انطلق بشارتي يروي:
“- حكاية عرفات معنا طويلة. والحقفيقة إننا كنا على خلاف معه حتى قبل الثورة، كان يريد إقامة مكتب للمنظمة في طهران الشاه، وحاولنا إقناعه بالتخلي عن هذه الفكرة مشيرين إلى أن سقوط الشاه وشيك، إلا أنه أصر… وفي النهاية هددنا بنسف مثل هذا المكتب لو إنه أقامه!
“وبعد الثورة لم تتحسن العلاقات كثيراً. إننا نعرفه جيداً. إنه مساوم محترف. وخلال حرب العراق علينا كان يتردد باستمرار على بغداد ويفتح ذراعيه وابتسامته على الآخر وهو يعانق صدام حسين. لقد انحاز إليه فتسبب بإلحاق أذى خطير بقضيته. وخلال احتلال الكويت، كرر الغلطة نفسها، ملحقاً الدمار بقضية فلسطين”.
أطلت الابتسامة عبر اللحية الكثة بينما بشارتي يقول:
“- حين يخطئ سائق السيارة تسحب منه رخصة القيادة ويفرض عليه دفع تعويض عطل وضرر للآخر، أما بالنسبة لقائد الطائرة فالخطأ الأول هو الخطأ الأخير، وعرفات، مثل صدام، هو قائد طائرة، وهنا الكارثة…”.
واستطرد نائب وزير الخارجية الإيراني يقول:
“- كان العراق سينتج بعد سنتين قنابل ذرية. كان يتباهى بأنه سيكون أول دولة إسلامية تدخل النادي الذري. اليوم، العراق بلا خبز. نحن نصدر إليه الخبز والقمح والعدس والملابس والأدوات والأدوية وكل شيء… لقد ضيع العراق”.
وانطلق بشارتي يعرض لتردي الأوضاع العربية وتهاويها من المغرب الذي استضاف بيريز إلى مصر كمب ديفيد وزيارة القدس إلى دول الخليج و”الدول التي كانت تقدمية” مما دفعني لأن أقول له: “كأنك لا تحب العرب…” ولقد رد بالابتسام، ثم بإنكار التهمة قائلاً:
“- أبداً، إن تحفظنا يتركز على مصر والمغرب للأسباب التي ذكرت، مع الباقي علاقاتنا طبيعية، وجيدة، مثلاً مع ليبيا ومع سوريا. أما لبنان فإن زيارة فارس بويز كانت طيبة بنتائجها. وقد وجه الدعوة إلى الدكتور ولايتي لزيارة لبنان وسيلبيها قريباً جداً.
بالنسبة للسعودية وسائر الخليج، انتهت الحرب التي كانوا قد انحازوا فيها ضدنا إلى “شقيقهم العربي” فبدلوا موقفهم. لسنا نحن من بدل أو تبدل، هم غيروا فعادت علاقاتنا طبيعية”.
وحين بلغ الحديث الولايات المتحدة قال بشارتي:
“- واشنطن هي التي بادأتنا بالعداء. لم يذهب لقتالها، بل إن عسكرها هو الذي جاء إلينا في بلادنا. ولقد واجهناها حين فرضت علينا المواجهة. ظلت سفارتها بين أيدينا لمدة 440 يوماً، ولم نهتم بالتهديدات، كنا نمارس سيادتنا على أرضنا، ولم نخن، إنها دولة عظمنى، لكنها – كما يقول المثل، “هي واحد، لا أكثر، ونحن واحد”. وإذا جاءوا مرة أخرى لقتالنا سنقاتلهم. موقفنا لم يتبدل. لعله أهدأ، لكنه هو هو… ولو أنه تبدل بمقدار ذرة، لو إننا التفتنا إليهم بطرف عيننا لكانوا ملأوا الدنيا حديثاً عن ذلك…”.
لكن التحولات حقيقة، وانتهاء زمن الثورات حقيقة، وانهيار التوازن الدولي الذي كان قائماً حقيقة، وكذلك تعاظم الهيمنة الأميركية…
ويستذكر بشارتي بعض “التاريخيين” وهو يحدث عن مؤتمر مدريد:” – لتشرشل كلمة شهيرة مفادها: حتى إذا كنت ضعيفاً فإن هذا لا يمنعك أن ترفع صوتك.
ولماكميلان قول مفاده: أمد يدي إلى خصمي مصافحاً في بداية التفاوض لكن هذا لا يمنعني من شتمه. أما نيكسون فيقول ما مفاده: احضر هراوتك قبل أن تجلس إلى مائدة المفاوضات”.
ويخلص إلى استنتاج محدد، مؤداه: “من قال إن السلام هو في مصلحة إسرائيل؟؟
لو قامت علاقات طبيعية بين العرب وإسرائيل، إذا ما انتهى مؤتمر مدريد بنجاح، فإن قيمة إسرائيل ستنقص، ووظيفتها ستصبح أقل أهمية إذ ستصير أضعف وأقل فائدة للأميركيين”.
متعبة إيران الخارجة من حرب طويلة، لكنها تواصل رفع راياتها. والثورة الآن أكثر نضجاً وأكثر وعياً لمشكلات الداخل التي لا تحد.
بعد الحرب تدهمك كل هموم حياتك التي لا بد أن تستمر دفعة واحدة، وعليك أن تعالجها جميعاً، والحماسة وحدها لا تكفي، والإيمان يتكامل بالعمل. والعمل يحتاج إلى هامش واسع للحركة، والهامش يتطلب علاقات طبيعية، والعلاقات يقيمها الدبلوماسيون (الإسلاميون) وليس الثوار الذين باعوا دنياهم واشتروا الجنة.
يكفي أن تتأمل ضخامة طهران واتساعها المهول والحشد البشري الكثيف فيها لتدرك كم تبقى أمام الثورة من مهام لا تحتمل التأجيل، صحيح إن الفقر يستتر، كما في كل مكان، مخلياً الواجهة للأغنى والأعظم ملكاً، لكن الفقراء ما زالوا ينتظرون تحقق الأحلام التي جاءت بالثورة وجاءت معها.
وطهران التي تقتعد القعر بين مدرجات جبل “شيركوه” (ومعناها الأسد، بالفارسية) تكاد تنفجر بملايينها المتزايدة باستمرار وبسياراتهم المتزايدة باستمرار، وبمطالبهم التي تتعاظم خصوصاً مع التأخر في التلبية.
الثورة الأخيرة في هذا القرن تحاول الآن أن تجد لنفسها موقعاً ثابتاً في هذا العالم الذي طمحت قبل سنوات إلى تغييره ويطمع الآن – بقيادته الأميركية – في اجتثاثها من جذورها.
وإذا كان العرب يخوضون في مدريد، وباسم السلام الأميركي وتحت “الرعاية” الأميركية حربهم الأخيرة مع إسرائيل، فإن إيران الإسلام والثورة تخوض الآن حربها الأقسى والأخطر (وربما الأخيرة) مع النظام الأميركي الجديد لعالم ما بعد الشيوعية وما بعد حرب الخليج.
والعمامة عبء وليست وجاهة، وهي تتقدم الصفوف الآن بحق بالموقف المكلف بتضحياته لا باللياقة، والكلمة المختزنة في الصدر قد تدفقت خارجة من الذاكرة إلى الشارع فاحتلت الجدران والكتب والصحف وبرامج الإذاعة والتلفزيون.
والعمامة “عربية” في أصلها. لذا فالحلف مع العرب ضرورة، في الماضي كما في الحاضر والمستقبل، فالمسلمون يستشعرون نقصاً إذا ما غاب عنهم العرب. والثورة لم تصبح تماماً من تراث الماضي، لكن عاصمة ما يجب أن تبقى قادرة على الجاء الثوار القدامى وإحياء الأمل في التجدد واستكمال المهمات الجليلة، ولو بعد حين.
من هنا اهتمام المراقبين بالاتجاه الذي برز واضحاً عبر مؤتمر فلسطين والداعي إلى مصالحة حقيقية بين الوطني والقومي والإسلامي.
ولعل هذا أهم تحول تشهده طهران، عاصمة الثورة الإسلامية، والعاصمة الفلسطينية، في غياب القدس وانشغال سائر العواصم العربية عنها.
حمى الله طهران وثورتها… الأخيرة في هذا القرن!