فجأة، عادت الأسماء جميعاً ترن في القلب والخاطر، وعادت العين تتسح بأطياف الوجوه الحبيبة، بالأماكن الأليفة، بالمعالم التي دخلت تاريخك الشخصي لارتباطها بما هو غال وعزيز من ذكرياتك، قبل أن تندفع بك مشوقة مرتعشة باللهفة لتغرق في الصمت الإنساني المدوي للنيل العظيم.
هو، للمناسبة ما يزال يجري بين المنبع والمصب، لا يتوقف ولا يلوي عنقه إلا عند السد العالي، ولكن مالنا وللسياسة الآن…
لكأنما تلك الرصاصات الخمس قد هدت الجدار الذيب صدك عن الحبيبة، وأطلقت ريحاً أخذت تقلب الصفحات حتى أعادتك إلى لحظة المغادرة بعد الزيارة الأخيرة، فإذا الزمان موصول وإذا ما كان وانتهى كان مجرد كابوس أسقطته اليقظة.
… وها هي القاهرة، قاهرتك، تتوهج في الوجدان، وتستقبلك مفتوحة الذراعين: – أهلاً. ده انت نورت!!
-بل إنت النور والمنارة!
المدخل مدينة نصر: هنا، إذن، كانت الخاتمة التي تأمل أن تنهي رحلة الاغتراب والضياع وانعدام الوزان.
ما أدق اختيارات القدر، فهذه الضحاية – المدينة التي أنشأتها ثورة جمال عبد الناصر قد شهدت السقوط الدامي لـ “خليفته” الذي لم يفعل في حياته شيئاً إلا محاولة إلغاء سلفه، ولو أدى ذلك – وقد أدى – إلى إلغاء مصر، فلم يلغ (عملياً) إلا نفسه… وبيد من؟
بيد القوى نفسها المخاصمة لثورة 23 يوليو، وهي القوى التي رعاها السدات وحماها ونماها إلى ما بل أسبوع من مقتله.
شارع العروبة، منشية البكري، والضريح المزار الذي كان أول سجين في عهد ديمقراطية الساداتز
ما أعجب مصادفات القدر: لقد حاول المتعصبون إياهم (إذا صح اتهامهم هذه المرة) أن ينهوا عبد الناصر بالرصاص قبل 27 سنة، فكان أن انتصر عليهم بالثورة وبإرادة القتال التي بلغت ذروتها بالوحدة، أما الآن فقد نجحوا في قتل السادات بينما هو يعاني من آثار عزلته داخلياً (عن شعبه) وعربياً (عن أمته) وعالمياً (عن المسلمين والأصدقاء والحلفاء الطبيعيين)… وأول أسباب هذه العزلة وأهمها اجتهاده الدؤوب في القضاء على إرادة القتال والتغيير، على الثورة ورايتها الخفاقة: الوحدة.
… والطريق إلى القاهرة مفتوح: بقوة التاريخ، بطبيعة الأشياء بارتباط قيمتها بك ارتباط قيمتك بها.
لا تعجب إنك لن ترى فيها اليوم أثراً للحزن، فهي والحزن توأمان منذ سنوات وسنوات.
ولا تعجب إن لم تجد فيها مظهراً لفرح. فالفرح ينتظر الرجال القادرين على صناعته نصراً غير مضيع وغير منقوص وغير مخصص للبيع!
القاهرة ما تزال القاهرة، النيل ما يزال يجري من المنبع إلى المصب
الوجوه الحبيبة والأماكن الأليفة والمعالم التي كاد ينسيكها البعاد كلما تنتظر، وتطالعك بعتاب: ها نحنا باشرنا ما علينا فمتى تباشر أنت… حيث أنت؟!