طلال سلمان

على الطريق تجديد الدولة عبر الإدارة

لكل “عهد” إصلاحه الإداري،
لكن “العهد” الذي يلي سرعان ما يوجه إلى سلفه تهمة الفساد والإفساد، لاسيما على الصعيد الإداري، ثم يتعهد بإصلاح خارق قد يصل إلى حدود الثورة.
في الغالب الأعم ينتهي الأمر بـ “تطهير” عدد محدود من الموظفين “المكشوفين”، وتعيين موظفين جدد، وملء الشواغر في المراكز العليا عبر مجموعة من الصفقات والتسويات الصغيرة بين كبار المسؤولين وعلى قاعدة التوازن الطائفي والمذهبي التي تلغي آخر معيار للعدالة أو الكفاءة.
وفي الغالب الأعم يتحول “ضحايا التطهير” من الموظفين إلى رجال أعمال مهمين، أو ربما إلى وزراء ونواب يجسدون الإرادة الشعبية في اختيار الأصلح!!.
كذلك فإن النخبة من الأكفاء بين الموظفين تغتنم – في العادة – فرصة رفع الحصانة لتترك الدولة إلى القطاع الخاص، أو إلى العمل الحر إجمالاً، حيث تلقى تقديراً معنوياً يترجم في الرواتب المجزية والتعويضات والمكافآت أو الأرباح المباشرة، إلى آخر ما كانت محرومة منه في “السلك الحكومي”.
وبالتأكيد فإن “الإدارة” بحاجة إلى ما يتجاوز الإصلاح والتطهير وفتح باب الاستقالة، إنها بحاجة إلى إعادة بناء شاملة.
إن “الدولة” في لبنان قد شاخت، ولا بد من تجديد شبابهاز
إنها دولة بإدارة عجوز ومتخلفة وقاصرة عن تحقيق الحد الأدنى من مهماتها الروتينية، فكيف باللحاق بالعصر ومواكبة التقدم العلمي المذهل وعنوانه الأبرز: علم الإدارة، وركيزة هذا العلم الكومبيوتر؟!
هل يمكن تجديد “الدولة” في لبنان؟!
وهل يستطيع (أو يرغب) القطاع الخاص أن يقوم بهذه المهمة؟!
لقد تعود اللبنانيون أن تكون “دولتهم” في خدمة القطاع الخاص: هي تدفع وهو يجني الأرباح، هي تفتقر وتتضاءل إمكاناتها وهو يزداد غنى على حسابها ومن مواردها المباشرة، وهي تكلف بالمشاريغ غير المنتجة وتتحمل أعباء إقامة البنية التحتية، وهو “يقطف” ثمار مشاريعه الخاصة، المخططة بحيث تجيء نتيجة لما بنته أو تكبدته الدولة وعلى ظهرها.
ولا شك، إن ثمة فساداً مستشرياً في الإدارة الحكومية،
ويستطيع أي مواطن أن يسمي من رموز الفساد والرشوة والتقسير والجهل داخل الإدارة أعداداً تتجاوز الحصر.
لكن ذلك نصف الحقيقة، ونصفها الآخر أن القطاع الخاص يتحمل نسبة كبرى من فساد الإدارة في القطاع العام… أفليس الراشي كالمرتشي في المسؤولية الجنائية؟!
من يرشو موظفي المالية (في ضريبة الدخل أو في العقارية أو في الجمارك الخ)؟!
وإذا كانت الحكومة ستحاسب “موظفيها” الفاسدين، فمن سيحاسب الذين أفسدوا هؤلاء الموظفين، خصوصاً وإن من هذه الحكومة كما في سابقاتها بعض نجوم القطاع الخاص المزدهر جداً، والذي يعود الكثير من ازدهاره إلى التواطؤ مع بعض “الإدارة الحكومية” على سرقة المال العام، سواء بالتهرب من الضرائب بدءاً بضريبة الدخل مروراً بضريبة الأملاك المبنية وانتهاء بالضرائب على التركات، هذ ا من غير أن نذكر وضع اليد على الشواطئ البحرية والأراضي الأميرية والمشاع البلدي الاخ…
قد يقال إن القضاء سيكون المرجع الصالح، في ضوء التقارير والملفات التي تحتفظ بها أجهزة التفتيش ويدوان المحاسبة والرقابة عموماً.
لكن وضع القضاء هو الأخطر والأولى بالعلاج،
فثمة نقص مخيف في عدد القضاة، وهو نقص يتزايد يومياً مع سريان موجة الاستقالة من هذا السلك ال ذي لا تحفظ المرتبات أو التعويضات فيه كرامة المنتسبين إليه.
صحيح إن هذا الخلل الفاضح ينطبق على مجمل الموظفين، وكبارهم قبل صغارهم، لكنه في القضاء فضيحة، حيث بات مرتب الجندي السائق يزيد على مرتب المستنطق أو القاضي الذي يتخذه مرافقاً.
ثم إن كثيراً من العناصر الفاسدة في الإدارة هم أبناء شرعيون للمفدسدين في السياسة والاقتصاد والنفط والمال والأعمال التي يختلط فيها الحلال بالحرام.
وطريف أن يكون هؤلاء المفسدون غداً هم هم الناصحون بتطهير من انكشف من “أبنائهم” أو “أدواتهم” و”مسهلي أعمالهم” الفاسدين.
إن قادة الميليشيات ومعهم زعماء المافيات في مقاعد السلطة، وهم بالتأكيد سيمنعون الحساب عمن يلوز بهم من الموظفين، لاسيما أولئك الذين عينوهم أو رفعوهم إلى أعلى “الملاك” هم بالذات،
إن الإصلاح غير الانتقام، بل هو نقيضه،
والإصلاح يتجه إلى السبب وليس إلى النتيجة،
وطريف أن يسال صغار الموظفين: من أين لكم هذا؟! بينما لا يسأل أحد غيرهم عن مصدر ثرائه، وهو في الغالب غير مشروع.
ومؤلم أن يتحول الراشي الكبير إلى مدع عام بينما يصور المرتشي الصغير وكأنه سبب كل المصائب في لبنان، من الحرب الأهلية إلى التردي الشامل في الأوضاع الاقتصادية إلى تدهور قيمة النقد الوطني إلى مخاطر الاجتياح الإسرائيلي لمزيد من الأراضي في الجنوب أو في البقاع أو في جهات أخرى.
إن الإدارة بحاجة إلى رؤية عصرية ومتكاملة تصدر عن إيمان بالدولة وحق المواطن في الخدمات العامة ومن ثم في حياة كريمة ولائقة.
والأمل أن تتولى هذه الحكومة معالجة وضع الإدارة بروحية تبتعد عن الرغبة في الانتقام السهل، وبمنظور يتعدى مصالح القطاع الخاص الذي يفترض بعض رموزه أن الدولة الضعيفة وبالإدارة المتخلفة بين شروط نجاحه السريع في تحقيق ثروات خيالية من المال العام أو على حساب المصلحة العامة.
والبعد الاجتماعي بين بديهيات التوجه لبناء إدارة مؤهلة ونظيفة.
ومثل هذا البعد يفرض الربط بين الدولة وبين مواطنها فلا ينظر إلى الدولة وكأنها “جسم غريب” أو ينظر إلى المواطن وكأنه “شيء من الخارج”.
لقد انتهت الحرب خارج الدولة،
والأمل أن تكون قد دقت ساعة إنهاء الحرب على الدولة في المواطن أو على المواطن في الدولة، أو على كليهما معاً.
وهذا امتحان خطير لحكومة الحريري.

Exit mobile version