أما وقد بات اللبنانيون على حافة الجوع، هم أيضاً، برغم عقدة استعلائهم (السابق) ومكابرتهم الدائمة في رفض الاعتراف بفقرهم، فأغلب الظن أنهم باتوا أكثر تقبلاً لحديث عن الجياع الآخرين، وما أكثرهم، في ظل النظام العالمي الجديد!
إن الانتخابات النيابية، بكل ما جرى فيها وما لم يجر، مهمة جداً،
والمقاطعة التي “وحدت” المعارضات تعبر عن مأزق يعيشه الجميع، حكاماً ومعارضين ومستنكفين وطامعين بوراثة مبكرة،
وانتخابات كسروان الاستلحاقية أمر جلل لا يجوز التقليل من تأثيربه على مصير الكيان والكيانيين.
وقمة اللاذقية بكل الهموم اللبنانية التي “اندلقت” فيها وعلى الطريق بين عروسة الساحل السوري ومصايفه الجميلة والنظيفة مثل “صلنفة” و”كسب”، وبكل ما قيل فيها فعُلم، أو عُلم من دون قول، كل ذلك سيكون له نتائجه وانعكاساته على مستقبل “العهد” وجمهورية الطائف وصيغة الوفاق إلى سائر الشؤون والشجون الثقيلة التي تحملها الأكتاف الضعيفة للبنانيين،
لكن أمر الجوع، القائم فعلاً أو القادم، بات ضاغطاً بحيث لا يمكن إرجاء الحديث عنه، وهو مزعج بطبيعته، ومزعج بتداعياته، ومزعج بكشفه لواقع نود لو يبقى مستوراً!!
لكأنما “النظام العالمي الجديد” يعني – في جملة ما يعنيه – قسمة ها العالم – رسمياً وعملياً – إلى فئتين: الأولى ممتازة بما يتجاوز الشبع إلى التخمة، والثانية محاصرة ومنهوبة الخيرات بحيث لا يبقى لها غير انتظار الموت جوعاً.
لكأنما “النظام العالمي الجديد” هو أعلى ذرى “الإمبريالية”، التي كانت توصف في يوم مضى (سقى الله أيام زمان) بأنها “أعلى أشكال الرأسمالية”… فعلى طريقة الأنظمة الإقطاعية، تتصرف الولايات المتحدة الأميركية وكأنها “المالك الوحيد” للدنيا وخيراتها، لها “ولاة – جباة” كما في أواخرعهد السلطنة العثمانية “يلتزمون” جباية الضرائب مقابل “حصة”، وثمة “وكلاء محليون” يلعبون دور “المقاطعجية”، فيتولون القمع ويمارسون اضطهاد الرعية لكي يشتروا مناصبهم من الوالي الذي يشتري هو الآخر منصبه من الباب العالي، وكل ذلك بالرشوة المكشوفة والمباشرة.
إن نصف أوروبا يعيش على حافة الجوع، وبالذات ذلك الجزء الذي كان منضوياً داخل الاتحاد السوفياتي، أو داخل معسكره الاشتراكي من دول شرقي أوروبا.
وعلى حد ما قال بعض الروس: ففي ظل النظام الشيوعي كان يتوفر الرغيف مع نقص في الكرامة، أما بعد سقوطه فقد ذهب الرغيف ولم تتوفر الكرامة!
يضيف آخرون عادوا حديثاً من موسكو: كان ثمة قلة من الأغنياء يملكون مالاً كثيراً لا يجدون شيئاً ليشتروه، أما اليوم فكل السلع الاستهلاكية وكل الكماليات الغالية متوفرة لكن ليس ثمة من يملك مالاً ليشتري به الأساسيات، فكيف بالكماليات؟!
كذلك فإن معظم آسيا تعيش في قلب الجوع، ابتداء من الفيليبين، مروراً بجنوب شرقي آسيا، فيتنام وكمبوديا وتايلاند، وصولاً إلى القارة الهندية التي لم تعرف الشبع في تاريخها، وهذا ينطبق على باكستان وبنغلادش طبعاً،
أما في الجمهوريات الإسلامية التي كانت سوفياتية وصارت مجرد ساحات للحروب الأهلية واسواقاً مفتوحة لمن يملك القدرة على النهب باسم الاستثمار، فالوضع ليس أسعد حالاً منه في دول “الرفاق القدامى”، بل هو بالتأكيد أتعس!
فإذا ما وصلنا إلى أفغانستان حيث تتقاطع سيوف الفقر والفاقة مع الخلافات العرقية والطائفية، مع حروب النفوذ الأجنبي، على ذلك الشعب المنكود الطالع والمهدد بالإقادة والاندثار، تبلورت المأساة في أروع تجلياتها.
لكن ذلك يظل أقل بشاعة بما لا يقاس من الواقع المرعب الذي تعيشه بعض أقطار أفريقيا، والمهدد بأن يشمل “قارة الخير” برمتها،
يكفي أن نأخذ الصومال نموذجاً حيث يتهدد الموت جوعاً شعباً بأكمله، بعدما هدت حيله “الحرب الأهلية المنظمة” التي أشعلها بناة النظام العالمي الجديد.
لا تكفي الكلمات لوصف حال الصوماليين، حتى الصور المجسمة لفظاعة الجوع، ونهشه للإنسان وتحويله إلى مجرد هيكل عظمي مخيف يدب على الأرض ساعياً وراء قطعة خبز أو أي نوع من الادام يقيم الاود،… حتى هذه الصور التي تخاف من مجرد النظر إليها، وتمتنع الصحف عن نشرها احتراماً لكرامة الإنسان كمخلوق فيه من روح الله، لم تعد تعبر عن الواقع المحزن بل المفجع الذي يعشه الصوماليون.
إن ملايين البشر، عشرات الملايين، مهددون بالموت جوعاً.
إن شعوباً بأسره مهددة بالانقراض.
إن “دولاً” كانت لها مواردها وميزانياتها والجيوش، تتحول إلى هياكل كرتونية معروضة للبيع…
ويمكن للنظام العالمي الجديد أن يمارس الآن النخاسة مع “دول” أفريقية يتجمع فيها أولئك الذين كان نخاسوه يستعبدونهم كأفراد أو كقبائل ويسوقونهم كقطعان الماشية من قارة إلى أخرى، ليكونوا عبيداً واقناناً للجيش الأبيض الممتاز.
إن النظام العالمي الجديد يكمل ما بدأه النظام الاستعماري بطبعتيه: القديم والجديد فـ “يصادر” ثروات تلك الشعوب وخيرات أرضها، ثم يتكرم عليها باستعبادها (وغالباً ما يوفد إليها حكاماً يتحدرون منها ويحملون الجنسية الأميركية) مقابل أن يمن عليها ببعض المساعدات التافهة، كالتي جاءتنا في لبنان من بعض حكام السخاء العربي الذائع الصيت.
والنظام العالمي الجديد عادل كل العدل، فهو يساوي بين “أغنياء ” العالم الثالث وفقرائه: يأخذ النفط ممن تختزن أرضهم النفط، ويصادر معه العائدات والأرصدة الضخمة التي كانت مودعة في مصارفه، ويأخذ الألماس ممن لديه (أو كان لديه) الماس، ويأخذ المواد الأولية – معادن أو منتوجات زراعية – ممن اشتهرت بلاده بغناها بالمواد الأولية.
كل المال للسيد الأوحد،
و”السيد” الأوحد هو الذي يعيد توزيعه: يأخذ 99,99 في المائة منه لكي ينعش اقتصاده المتردي، ولكي يظل قوياً بالقدر الكافي “لينظم” العالم ويقيم العدل في جنباته، ثم يوزع الباقي كمساعدات على المحتاجين والمعوزين… صدقة وتدليلاً على حرصه الشديد على حقوق الإنسان، من دون تمييز في الجيش واللون.
آخر الوقائع قاطعة في وضوحها: يعطي إسرائيل ضمانات قروض بعشرة مليارات، ولكنه قبل أن يوقع عليها “يتناول” من السعودية خمسة مليارات ثمناً لطائرات لن تستخدمها، خصوصاً وإن “السلام” آت ولسوف تسقط المقاطعة والحدود والسدود فيعود “اليهود أبناء عمومتنا” كما أبلغ بعض كبار السعوديين بعض كبار الأميركان.
لقد ربحت إدارة بوش من “الصفقة” الدولية التي مررتها على ظهر “عاصفة الصحراء” 52 مليار دولار عداً ونقداً (دفعها أساساً عرب النفط)… هذا عدا المائة وعشرين مليار دولار التي فرضتها كجزية على العالم بأسره، وفي الطليعة منه من يملك المال: أي عرب النفط وألمانيا واليابان.
لكن المجد الإمبراطوري يحتاج إلى المزيد، وهكذا فلا بد من تأمين موارد إضافية لكي لا يتعرض المجتمع الأميركي لهزات أخرى مثل تلك التي اجتاحت نيويورك ولوس أنجلوس في بدايات الصيف. ولا بد أن يدفع الفقراء آخر الأرغفة التي يملكون.
.. ولو كان يعرف المتبرع لحديقة الحيوانات في لندن، أو لضحايا إعصار أندرو في فلوريدا بمثل هذه الوقائع، لكان بادر فأرسل إلى الصوماليين ما يمنع انقراضهم جوعاً.
ولو كان “أهل الطائف” يعرفون بأمر الأزمة المعيشية الحادة في لبنان لمدوا لأخوتهم يد العون، فهو لا يقصرون في مجال الخير وإغاثة الملهوف.
لكن العتب على وسائل الاعلام التي لا تنقل الوقائع إلى “مركز القرار” وإلى “صناع القرار”،
… ثم إن صناع القرار مشغولون بما هو أجدى من إنقاذ هؤلاء المتخلفين في مجاهل أفريقيا وأدغال آسيا: إنهم منهمكون في تدعيم ركائز النظام العالمي الجديد، رمز العدالة ومصدر الشبع وضمانة حقوق الإنسان…ومن الإنسان غير الذي كرمه الله بالبشرة البيضاء؟!
“ساعدوا الأصدقاء الأميركان”،
هذا هو الشعار الكويتي للعصر الجديد،
لكن الصوماليين الحمقى ماتوا قبل أن يسمعوه..
.. ولبنان ينتظر مساعدات لن تجيء، ومن دول لم تعد تملك من أمرها شيئاً، إضافة إلى أنها لم تعد تملك قرشاً واحداً، فكل الدولارات قد ذهبت لتوفير فرص عمل للعاطلين عن العمل من الأميركان أو لبناء مستوطنات جديدة تؤوي “المساكين” الهاربين من جحيم الشيوعية إلى نعيم الصهيونية في فلسطين!
واللبنانيون يرفضون أن يصنفوا، أو أن يتصرفوا ، كفقراء،
والرفض في “الوطن النهائي” يشمل الدولة والشعب والمؤسسات، الحكم والمعارضات المقاطع منها والمستنكف، والمتلذذ بحرده مع احتفاظه بالمعالي!
وهذا هو العنفوان،
عشتم وعاش لبنان.. الجوعان!