بعد عام من الاحتلال الإسرائيلي، لم يرفع الجنوب، ومعه سائر “الأطراف” الأعلام البيضاء، بل نشروا عبر أحزانهم المعتقة راية الرفض للواقع المهين وأشهروا استعدادهم للعمل من أجل تغييره بما ملكت إيمانهم.
فأمس غطت الجنوب كله، ومعه طرابلس الشمال وبعلبك البقاع، الراية – الرمز للعصر العربي الراهن المرتهن: راية سوداء كما ضمائر الحكام والجلادين وكما ليالي المحكومين بالقهر وترسبات دهور التخلف حتى من قبل أن يجيء الاحتلال الإسرائيلي وعسكره اللجب.
لكن هذه الراية، على سوادها كانت بشارة فجر جديد: فالجنوب بخير، لم يمت ولم يستسلم ولم تقتله المرارة والخيبة والإحساس الثقيل بتخلي “الأهل” عنه في الداخل والخارج أي في دولته والدول الأخرى.
صحيح إن المفارقة مفجعة بين ما كان يجري في بيروت، في قصر مجلس النواب الممدد لنفسه شرعيته، وما جرى على امتداد “المنطقة الأمنية” التي طلبتها إسرائيل ونالتها، ولكن أي شرعية الأوراق الرسمية المطبوعة بالعبرية والإنكليزية والفرنسية (إضافة إلى العربية المعقدة) من شرعية أصحاب القرار باعتبارهم أصحاب الأرض والبيوت التي رفعت فوق سطوحها الرايات السود؟!
للمناسبة: أليس هؤلاء الذين رفعوا الرايات السود هم من منحوا “أبطال” الجلسات السرية شرعيتهم ، في ذلك اليوم المنسي قبل أحد عشر عاماً، ومن يمكنه الجزم بأن “الأصلاء” قد فوضوا فعلاً “الوكلاء” حق إبرام “اتفاق” مع العدو الإسرائيلي كالذين يسعون الآن لإبرامه في أسرع وقت وبأقل ضجة ممكنة؟!
الجنوب مجلبب بالسواد، مهيب، جليل الطلعة، نبيل الملامح كما الواعد بثورة، من صيدا إلى صور، من الزهراني إلى النبطية، إلى القرى والدساكر الممحوة أسماؤها عن الخارطة واللافتات، “من النهر إلى البحر” من الفقر إلى الفقر: كل شيء إنساني كما البطولة الحقة، نظيف وطبيعي وقوي الإرادة والشكيمة كمثل حصان عربي أصيل.
الجنوب براية السواد التي غطته أمس هو من أنقذ شرف لبنان، مشروع الوطن، بل حلم الوطن، في حين كانت كل “التدابير” تتخذ في بيروت لمنع النشر بما يسيء إلى “معنى” ارتفاع الراية البيضاء في قلب العاصمة المطوقة بالدبابات الإسرائيلية بعد.
… وعلى الراية البيضاء تواقيع عربية مسبوقة بكل الألقاب المحترمة في عصر الذلة والهوان: ففيها الجلالات والفخامات والسمو (!!) والسعادة وكل ما يشير إلى تذويب الدول في أنظمة وتذويب الأنظمة في أجهزة وذوبان الأجهزة في أشخاص يذوبهم الشوق… إلى عصر السلام الإسرائيلي المؤكد السيادة بقوة الدبابة والطائرة والخطة الأميركية.
لقد قال الجنوب كلمته قاطعة “مبرمة” لا:
قالها بالراية السوداء كما قالها بطوابير المعتقلين وبمواقف العشرات ممن استدعاهم حكام الاحتلال العسكري إلى التحقيق،
وكلمة الجنوب هي حجر الأساس في أي موقف يرفض الاحتلال ونتائجه وصولاً إلى “الاتفاق” الذي يتعجل المتعجلون إبرامه تحت ذريعة إن الناس قد كفروا ولم يعد بوسعهم أن يتحملوا “كما لم يعد من حقنا أن نحملهم” فوق ما يتحملون!
كلمة الجنوب هي نقطة البدء والمنطلق، ولقد دوت أمس – برغم الحجر الإعلامي الرسمي – لتشكل انعطافة فذة في تاريخ لبنان وفي شكل “تعاطيه” مع الاحتلال الإسرائيلي،
ويبقى أن نرعى هذه الانعطافة، وأن نندفع بها إلى مداها في بيروت كما في سائر العواصم العربية، بالدعم الجدي للجنوب وأهله وكل الرافضين بدمائهم واقع الاحتلال.
وأول الدعم أن يتوقف الاقتتال بين رفاق الصف الواحد والتنظيم الواحد والوطن الواحد،
وأن توجه البنادق ، كل البنادق، إلى “الهدف” ، أي إلى الـ “عدو”
وأن يتوقف بعض حكام العرب عن إيهامنا بأنهم يعانون من عمى ألوان يجعلهم لا يفرقون بين خرق الاستسلام البيضاء ورايات الرفض السوداء، وعن تغطية التراجعات والانحرافات بعباءاتهم وريالاتهم ودنانيرهم والدولارات وتبريراتهم الجاهزة لتمرير مختلف أنواع الهزائم وبيع الأوطان بالجملة أو بالمفرق.
والراية السوداء، بما هي إشهار لإرادة المقاومة والتغيير، تتجاوز الأحزان وإعلان الحداد على أعمارنا المهدورة، لتشكل علامة على الطريق الصعب نحن الخلاص والحل والمستقبل الأفضل في لبنان وخارجه.
وبدلالات الراية السوداء سيخرج الجنوبيون عسكر الاحتلال وليثس ببنود الاتفاق الممنوعة الكتابة في ما قال “النواب” فيها وعنها، بغرم الاطمئنان المسبق إلى “الاجماع” الأبدي لمجالس النواب العربية!
وبيروت، برغم كل شيء، ستكون – في آخر المطاف – جنوبة، فهي بالذات قد ارتضت قبل عام، أن تحترق على أن ترفع الأعلام البيضاء،
وهي لن ترفعها اليوم، مهما تكاثر عدد اللافتات المكتوبة باسم “أبناء بيروت” لتغريهم بالركوع والاستسلام والانصياع للقدر الإسرائيلي حتى لا يتهموا بأنهم “تحت وصاية” الآخرين!
ومرحباً بوصاية الراية السوداء!