البحيرة هادئة بعد… تمتد صفحتها مرجاً من الرماد حتى تتداخل عبر الشفق مع السماء الرمادية المنطفئة، وتتسع استدارة القوس حتى تضيع الحدود زارعة فيك الإحساس بأن الدنيا أوسع بكثير من قاعة “القناطر” المغلقة في انتظار المصالحات. وهي المصالحات التي ستقرر حجم الاصلاحات العتيدة وبالتالي صورة لبنان المستقبل… والمستقبل دائماً لله!
هل ذكرنا القوس، وفي سويسرا؟
إذن فلا بد أن يجرنا الحديث إلى وليم تل، الذي يعتبر بحق مؤسس الاتحاد السويسري، خصوصاً وإن الاسم الرسمي للبلاد يرتكز إلى اسم كانتونه الصغير: “سويتز”.
تقول الروايات التي لها مرتبة الوقائع التاريخية الثابتة والمحترمة في وجدان أهالي سويسرا، إن وليم تل أنقذهم ومكنهم من البدء بإقامة دولتهم حين قبل التحدي ونجح في أن يصيب بسهمه التفاحة الموضوعة فوق رأس ابنه الحبيب.
وتلتفت باحثاً عن وليم تل بين المؤتمرين، لتفجع برؤيتهم منهمكين في أكل التفاح بعدما تباروا في من منهم يقتل “الابن” أولاً ليأخذ التفاحة كلها، أو القسم الأكبر منها، فإذا ما تعذر عليه ذل فليس أقل من أن يحظى بحصة منها… وما همه لو كان الثمن أن تطرد بلاده من الجنة وأن ترمى في جحيم حرب أهلية لا تنتهي؟!
البحيرة هادئة بعد، لكن المؤتمر في اضطراب ما بعده اضطراب… والغيوم التي تجمعت عبر أيام الجدل الستة تكاثفت الآن وادلهمت بتأثير المنخفضات الجوية الإسرائيلية والتيارات الملتهبة الآتية من بيروت، وهي تنذر بسيول وعواصف وصواعق قد لا تبقى ولا تذر!
وبرغم إن ثمة بين المؤتمرين من أصاب ضميره الوهن فكف عن الثأر منذ زمن بعيد، فإن بينهم أيضاً من تأخذهم بعد الرأفلة ببلادهم، ومن يقض مضجعهم الخوف من مواجهة المنتظرين، في بيروت وما حولها، وهناك أخيراً من عقد العزم على الاستمرار في المواجهة وملاحقة الكذاب حتى باب الدار ولو اضطره الأمر إلى البقاء أسبوعاً آخر، أو شهراص في لوزان، حتى لا يتهم بأنه قصير النفس وبأنه أضاع – بانفعاله – فرصة كانت متاحة للمصالحة الوطنية والإصلاح السياسي!
أين يقف المؤتمر، وما هي العقبة أو العقبات التي لم يستطع تجاوزها حتى الساعة؟
إذا ما اعتمدنا الدقة والصراحة فإن العقبة – الام التي حرن حمار المؤتمر أمامها هي مسألة الطائفية السياسية، فالبحث يبدأ انطلاقاً منها وينتهي عند جدارها السميك، وإن استمر بعض المؤتمرين يدورون من حولها محاولين اكتشاف منفذ إلى داخل بيضة الرخ المرفوضة هنا.
فالنظام في لبنان يعتمد حتى الساعة، الطائفية قاعدة له، انطلاقاً من كون البلاد كياناً سياسياً ينتظم في إطاره عدد من الطوائف تتوزع درجات درجات مع إعطاء أولوية مطلقة لطائفة بالذات تطميناً لها وتأميناً ضد هاجس الخوف من الأكثرية.
والاصلاح محكوم بخيار من اثنين:
-إما أن يتعاطى مع البلاد كوطن ومع اللبنانيين جميعاً كشعب يتساوى أبناؤه في الحقوق والواجبات وتتوزع عليهم خيراته وفقاً للجهود الكفاءة وحق المواطنية.
-وإما أن يتم قدر ما من الاصلاح من داخل قاعدة الحفاظ على الكيان، وهذا يستتبع الحفاظ على النظام الطائفي، مع تعديلات محددة ومحدحودة في الحصص، تخفف من شعور المغبونين بغبنهم من غير أن تستنفرخوف الأقلية الخائفة من أكثريتين صغراهما في الداخل، والكبرى، وهي الأكثرية الإسلامية على مستوى الوطن العربي كله، كما يحددها الشيخ بيار الجميل ومن معه.
الخيار الأول يقتضي بل ويفرض إلغاء الطائفية السياسية، وهذا يؤدي بالحتم إلى إلغاء الكيان ونظامه الراهن، والتعامل مع البلاد كوطن سوي ومع اللبنانيين كشف موحد وحر في اختيار النظام السياسي المتلائم والمستجيب لطموحاته المشروعة في الكرامة والحرية والعدالة والمستجيب أيضاً لموجبات انتمائه القومي.
وهذا الخيار يبدو مستحيلاً، في اللحظة السياسية الراهنة، فهو يحتاج إلى ثورة شعبية حقيقية لا طائفية في مبناها وفي منحاها وجذرية في شعاراتها وبرامجها، لا تعرف التعصب ولا الانغلاق ولا تقبل القمع أو العسف ولا تمارس التمييز ولا تمثل بالإكراه، لا تهادن إسرائيل ولا تتسامح على أي معامل معها، إلا من موقع العدو…
ومن أسف أن مثل هذا الخيار غير متاح الآن.. فالثورة تبدو بعيدة عن هذا البلد الذي حولوه إلى مستنقع طائفي نتن وحولوا شعبه المحب للحياة إلى طوائف وعشائر وشراذم ودكاكين تمارس القتل والخطف والتهجير، وتضيع أمام عيونها الزائغة الحدود بين الشقيق والصديق والحليف وبين العدو ومن هم في خانة حلفائه. فما يجري في لبنان حرب أهلية يسعرها ويزيد نيران اشتعالها كون الغرائز الطائفية قد أطلقت من عقالها فلجمت العقول وكادت تلغيها.
يبقى إذن خيار الترقيع بإصلاح ما يمكن إصلاحه من عورات النظام الطائفي القائم ومن داخل منطقه، ومع الأخذ في عين الاعتبار الحقائق الجديدة التي أكدت نفسها على الأرض بقوة الإرادة المسلحة… وهذا ما تجمع عليه الأكثرية الساحقة من المؤتمرين.
فكيف يكون الترقيع؟ ومن هو ذلك العبقري القادر على تحقيقه وفقاً للقاعدة الشهيرة: “صحيح لا تقسم، مقسوم لا تأكل، وكل حتى تشبع”!
إذا ما استخدمنا اللغة السائدة، يمكن تلخيص السفسطة التي تضج بها جنبات لوزان بالنقاط الآتية:
الشيعة باتوا أكثرية الآن في لبنان هذه حقيقة لا مجال لإنكارها، ولكن، لا يجوز لهذه الحقيقة أن تنسف أسس النظام، وعلى هذا فشرط استمرار لبنان ألا يرفع الشيعة مسلحين بالتزايد الرهيب في نسلهم، عقيرتهم مطالبين بحقوقهم كأكثرية عددية، وأن يظلوا على تسليمهم بالرئاسة للموارنة من بين المسيحيين.. السياسة أهم من النسل، والعدد أعجز من أن ينسف صيغة توافق عليها الشرق والغرب، العرب والعالم الخارجي.
كيف يحل اللغز؟!
هل بإعطائهم ، على سبيل المثال منصب نائب رئيس الجمهورية، كما اقترح البعض؟!. لكن الموارنة احتجوا بأن هذا يغضب السنة، إذ أنه يعطي الشيعة موقعين في قمة السلطة، بينما هناك موقع واحد لكل من الموارنة والسنة وكذلك للدروز، إذا ما أنشئ مجلس الشيوخ تعطى لهم رئاسته… ثم إن مثل هذه التركيبة الجديدة تجعل للمسيحيين موقعين اثنين في السلطة (رئاسة الجمهورية ونيابة رئاسة المجلس النيابي) مقابل أربعة للمسلمين أو المحمديين (نيابة رئاسة الجمهورية – رئاسة الحكومة – رئاسة مجلس النواب ورئاسة مجلس الشيوخ).
فلما عدل الاقتراح بأن يجعل لرئيس الجمهورية نائبان ثانيهما أورثوذكسي اعترض الموارنة، ثم قدم اقتراح بإنشاء نيابتين لكل رئاسة في محاولة لتحقيق التوازن العددي، لكن المناقشة الجدية استبعدته لعدم واقعيته.
على هذا تمت العودة إلى المنطق القائل إنه لا بد أن تتم علية التعديل داخل نطاق “حصة المسلمين” أو المحمديين الواحدة، ولا تمس من قريب أو بعيد الحصة الأخرى المفرزة أو المقررة للمسيحيين ولا شأن لأحد بحقيقة إن تلك الحصة قد احتكر معظمها الماروني، ملحقاً الغبن بالأرثوذكسي أساساً وبالكاثوليكي واستطراداً بالأرمني الذي حمل عريضة بمطالبه وجاء ليحوم حول المؤتمرين مذكراً بوجوده.
وإذن فلا حل…
إذا أرضي الشيعة أغضب السنة، فإذا بذل سعي لاسترضاء السنة غضب الموارنة، أما إذا استرضي الدروز فذلك، سبب لاستثارة غضب الكاثوليك والأرثوذكس معاً الذين يعتبرون إنهم يعاون غبناً تاريخياً خطيراً ويعتبون على الجميع لتجاهلهم، ويرون إن الفرصة قد تكون حانت الآن مع فتح ملف المظالم!
والحل الحقيقي أن تفك الحصص جميعاً وأن يعاد توزيع القرص ذاته على أصحاب الحق فيه وفق قواعد عادلة أو قريبة من العدالة.
لكن ذلك في نظر “الجبهة اللبنانية” يفك النظام وينسف الكيان.
فإذا ما احتج محتج بأن استمرار الظلم هو الذي يؤدي إلى فك النظام ونسف الكيان، ردت الجبهة: “حسناً فليأخذوا ما ينقصهم من وظائف الفئة الأولى”!
وإذا ما قيل إن الاستمرار في احتكار السلطة مستحيل جاء الرد بأن هذه ضمانات وليست امتيازات، وبأن للمسلمين من الامتيازات أكثر مما للمسيحيين، بدليل استقلالهم في التشريع، في المحاكم الشرعية، وإعفاء أوقافهم من الضرائب والرسوم والطوابع.
البحيرة هادئة بعد، لكن الحلقة الجهنمية التي يحاصر المؤتمر في داخلها مقفلة وإن كانت تضج بكل شيء: بأصوات المظلومين، بضجيج المعترضين، بصخب المتعنتين، الذين تظنهم على حافة قبورهم فإذا بهم يستردون عافية الفتية دون العشرين متى جاء ذكر الامتيازات والمتنعمين بخيرات النظام الفريد!
ولا حل بعد ولا مجال لحل مع استمرار المنطق السائد خصوصاً وإن المؤامرة لمحاصرة المطالب ممثلة بما يحمله أساساً نبيه بري ومن بعده وليد جنبلاط، قد فشلت، وضاعت عبثاً “الجهود الذهبية” الحثيثة التي بذلت لتقسيم الواحد إلى اثنين والاثنين إلى سبعة والأربعة إلى تسعة وأربعين.
فالحل العادل ممنوع من الدخول إلى قاعدة المؤتمر، والحل المزور ممنوع من الوصول إلى بيروت.
ولا يبقى إلا أن يتدخل “المهندس” عبد الحليم خدام بمشروع حل يستحيل على أي من الطرفين أن يرفضه، مستعيناً على عناد المتعنتي “بذهب” المراقب الآخر الذي يحضر دفتر “الشيكات” لشراء الرضى أو شراء الغضب أو شراء الفندق والبحيرة والجميلة.. وكفى الله المؤمنين شر القتال!
المعادلة واضحة: لا إصلاح مع الطائفية، لا طائفية مع الاصلاح، لكن اللبنانيين عباقرة في ابتداع الحلول للمسائل التي لا حل لها في أي مكان أو زمان… والطريف إن كلاً من المؤتمرين يحاول إقناعك بأنه مع الاصلاح ضد الطائفية وإن غيره هو الطائفي والمتحجر والمعادي لروح العصر.
ومع ذلك فلا بد من الاستمرار في المحاولة حتى النفس الآخير، والبديل هو الموت والمزيد من الموت والمزيد من تغلغل العدو الإسرائيلي في الشأن اللبناني.
وعلينا جميعاً ألا ننسى إن إسقاط اتفاق 17 أيار لم يسقط ولم ينه وجود “الاتفاقيين” ممن صنعوا الاتفاق المشؤوم، فإذا أضفنا إليهم طيبي الذكر “الشارونيين” – وقذائفهم تطول الآن معظم الناس في مختلف الأمنة – صار ضرورياً أن نتعامل مع الأمر كله بطريقة مختلفة.
فلا بد أولاً من إنهاء الاحتلال الإسرائيلي ومن إخراج إسرائيل من قلب النسيج الداخلي للمجتمع اللبناني لأن استمرار وجودها يعطل إمكان التفاهم حتى على الحد الأدنى.
فإسرائيل في حلف وثيق مع الطائفية والطائفيين وهي تشكل لها ولهم السند والحماية والدعم في طريق التغيير المنشود، لأنه إذا ما تم سيأتي باللبنانيين جميعاً ومعهم سائر العرب إلى الجبهة في مواجهتها.
وتلك هي المعضلة التي لا يمكن العثور على حل لها في جنيف ولا في لوزان مهما راق الطقس فيها ومهما تجملت بحيرتها الفسيحة.
ومن هنا قلنا ونعيد إن الحل في بيروت والضاحية والجبل والجنوب وخاصة في الجنوب وليس في أي مكان آخر.
مع الاعتذار عن هذه اللهجة التي قد لا تعجب البعض وقد تخيب أمل البعض الآخر وقد تعتبر تحريضاً وتخريباً على “المؤتمر العظيم”. لكننا سنظل ندعو عبر المؤتمر وخارجه إلى أن يتولى “وليم تل” قوسه ويطلق سهمه بل سهامه جميعاً في الاتجاه الصحيح.