البحيرة راكدة بعد.. لكن المؤتمرين في حركة دائبة ، يصعدون ليعودوا فيهبطون، ويهبطون ليعودوا فيصعدون. يختفون في الغرف المغلقة. يتهامسون، يرشفون القهوة أو الشاي، أو الحيليب الساخن، أو الماء المهضم، ويبتلعون أقراصاً متعددة الأغراض، تطقطق حبات المسابح، يتفقون على بعضهم، ثم ينفض السامر، ويجلس كل إلى مستشاريه يسمع منهم آيات المديح لشخصه ومواقفه، والذم في خصومه ومواقفهم، ومعها آخر التشنيعات والنكات والخبريات التي تفيد في تبييض الوجه أو في التمهيد لبعض الصفقات.. فالسياسة مجال ضيق، وأوسع منها دنيا المال والأعمال وخبرات ربك الوفيرة!
الكل حائر مبلبل، ضائع، ملخوم.. بالكاد استطاع أن يستوعب، ويبلع تلك الظاهرة التي اسمها وليد جنبلاط، فجاءه الآن ذلك اللغز المغلق المسمى نبيه بري!! من أين انشقت الأرض عن هذا القادم من تبنين بغير تاريخ خاص ميزه عن ألوف ومئات ألوف الوافدين مثله من الملحقات والأرياف الفقيرة.
ونبيه بري لم يأت وحيداً، بل جاء ومعه كل ما اختزنته عبرتاريخ القهر السحيق، تلك الأرياف والنواحيالضائعة على الخريطة، والمجهولة أسماؤها، وأسماء ناسها المساكين.. ثم إنه نكش كل ما يخيف، وكل ما عمل أساطين السياسة، رعيلاً بعد رعيل، على طمسه وإخفائه أو تزويره وتشويهه من الشعارات المجسدة لطموحات الناس وأحلامهم!
إن نبيه بري، الآن بما يقوله وما يطرحه، وبما نجح في ما يحققه على لاأرض، ثم بتلك الحكمة التي هبطت عليه لا يدري أحد من أين “في ما يقول مشايخ الحكمة هنا” وقد أعاد رفع كل الرايات المسقطة، وأنعش الآمال التي افترض إنها دفنت في صدورأصحابها. وهكذا ملأ عليهم غرف نومهم بالكوابيس، وأشباح الثائرين من الدهماء، وأبناء السبيل القادمين لاسترداد ما ضاع منهم وعليهم عبر الأجيال؟
وتنقسم الآراء، وتتعدد الاجتهادات حول الشخص وأهدافه.
بعضهم يهز رأسه بثقة وهو يقول:
-دعوة لي! أنتم لا تعرفون اللغة التي يفهمها هؤلاء المثاليون!! دعونا نسترضيه ونهدئ من روعه، حتى نكتشف نقطة ضعفه فنلخصكم منه!! كل إنسان في هذه الدنيا له ثمن، ولن نعجز عن تفير الثمن الذي يتطلبه شراء رضا نبيه بري أو صمته!!
أما البعض الآخر فيتأفف متعجلاً الخروج من الكابوس:
-إنه متعنت، متعصب، لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب! عرضنا عليه قيادة الجيش، فلمعت السخرية في عينيه، واكتفى بأن سألنا: ومن يعين هذا الماريشال؟! فلما قلنا: رئيس الجمهورية بطبيعة الحال، قال بهدوء: من له حق التعيين له حق العزل.. ثم صمت، وحوّل الحديث إلى حكايات ونوادر عن إبراهيم بولس، وعبد الحسين العبد الله، وبعض الشعراء النكرة من مشايخ الجنوب، وأسياد من آل الأمين وشرف الدين ومن غليهم!
ويتسلم الحديث بعض من لمعتهم الوساطات، فجعلتهم نجوماً تتصدر صور وجوههم المتخمة التلفزيونات، فيقول:
-بل إننا حين عرضنا عليه مقعدين، بل ثلاثة في الوزارة المقبلة، لم يكلف خاطره عناء المناقشة والسؤال مثلاً أية مقاعد نعني.. وكلها أساسية: الدفاع، الداخلية والمالية. وكل ما حصلنا عليه من رده، قوله: إن حديث الحكومة لم يأت بعد، خلونا في الموضوع.. هل أنتم مع إلغاء الطائفية السياسية أم ضدها؟!
وينبري بعض رابع لتفسير هذه الظاهرة وتحديد وسائل علاجها فيقول:
-لا عليكم، إن الحل ين يكون معه، فلا تضيعوا وقتكم سدى. متى تفاهمتم مع السوري انتهى نبيه بري تلقائياً، بدل أن تحاروا في كيف توقفون زحف المياه، اذهبوا إلى النبع وسكروا الحنفية!!
البحيرة راكدة.. لا يعكر صفو صفحتها الرائعة غير أرتال البط السابح فيها والصدى المتردد لأصوات محركات الزوارق المسلحة، وهي تمرق بين الحين والآخر للتأكد من سلامة المؤتمرين والفندق. أما ما في داخله فلا يعنيها بأي شيء، في حين إن أسباب الاضطراب جميعاً تتكتل فيه!
وتجوب الغرف سعياً وراء الكلمة تأخذها من مصادرها مباشرة، وبغير وساطة أو وسيط: تجلس إليهم واحداً واحداً، ترفع صوتك مع البعض ليسمعك، وتختار مقعداً معيناً مع آخر ليتمكن من رؤيتك، وتحول بصرك عن وجه ثالث حتى لا تأخذ الشفقة بمن لا يشفق على نفسه ولا على بلده فيرفض التقاعد والاعتزال “لأنهم يحبونني ويرفضون غيري رئيساً، ولو غبت عن الحزب، بعد 47 سنة، أستاذ، لاضطربت أوضاعه، وتخلخل بناؤه” على حد ما يقول الشيخ بيار (78 سنة) وهو مثال لا أكثر.
تسمع وتسمع، ثم تركض إلى البار، أو إلى الهواء الطلق في الخارج لتعب منه، برغم برودته، ملء رئتيك ولتتأكد من أن الشمس مستمرة في شروقها وفي نشر ضيائها، ومن أن الأرض ما تزال في فلكها تكمل دورتها الأبدية لتصنع الزمن المتغير والمغير كل الناس، وكل شيء إلا هؤلاء المرتاحين في مقاعدهم الوثيرة داخل الأجنحة الفخمة في الفندق الفخم الذي تكاد تقدر إن البعض منهم شهد تشييده في العام 1856!
تسألهم عن إلغاء الطائفية السياسية فيردون متسائلين بجدة: وهل في الطائفية عيب؟ ثم هل العيب فعلاً في الطائفية؟ العلة يا حبيب في الممارسة. الدستور ممتاز، لكننا لم نحسن تطبيقه.
وتسألهم عن الحل، فيبشرك البعض بأن الجميع قاب قوسين أو أدنى من الاتفاق على إقرار المناصفة في عدد النواب، إضافة إلى بعض التعديلات في المواقع والمناصب الإدارية، وهذا يكفي لحل المشكلة، ولو إلى حين.. ومتى هدأت النفوس والأوضاع، أمكن إكمال مسيرة البناء والاعمار، وإعادة لبنان إلى مصاف الدول الراقية.
البحيرة هادئة، ونفوس غالبية المؤتمرين هادئة، والقلق يكاد ينحصر في قلة منهم، وفي الكثرة الساحقة من الصحافيين والمراقبين الأجانب، وما أكثرهم هذه المرة، فإضافة إلى الأميركيين والفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين والسوفيات وبعض الدول الاشتراكية الأخرى، أتى أيضاً مراقبون من الأردن، بل وحتى من السويد. هذا إضافة إلى حشد من الإسرائيليين، بينهم ضباط وخبراء وموظفون ورجال مخابرات يتنكرون بلبوس رجال الاعلام، ويملأون جو الفندق وما حوله، وقاعة المؤتمر ومن فيها.
هل يأتي، إذن، التغيير، ومن أين، وكيف؟
إن ذلك بحكم المستحيل.. لكن تعذر وصوله يجعل الحل متعذراً . فما العمل؟
وتأخذهم “الصفنة” ولا يجدون أمامهم غير الهدنة، أو المسكنات. وينطلقون في محاولة رسم إطار الهدنة، ومداها، وركائزها، بما يضمن أن يتحول الموقت إلى دائم، باعتبار إن الزمن سيفعل فعله، وإن الإنسان مشتق لغوياً من النسيان. ومن اليوم وحتى يومها يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
البحيرة هادئة، على رغم إن الأزمة في غرف الجميع وداخل تجويفات الصدور، وفي المخيخ من رؤوسهم..
والأزمة نوعان: القلة تفكر بكيف يمكن إجبار الآخرين على التسليم بالتغيير من دون إهدار المزيد من الدماء؟ والكثرة تفكر بكيف يمكن إجبار أولئك التغييريين على التخلي عن عنادهم وتصلبهم، والعودة إلى جادة الصواب، تمهيداً لإقناعهم بإسقاط راياتهم ليضموا إلى “النادي” أو لإعداد العدة لتغييبهم عن المسرح، حتى لو كلف ذلك المزيد من الدماء!
على إن الدولة قد وجدت الحل أخيراً.. فهي قد شكلت اللجان، وسمت أعضاءها، والاجتماعات شغالة الآن على قدم وساق، وإن شاء الله خير. وتوكلوا على الله. والحمد لله. ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا اله إلا الله.
.. والطقس جميل جميل. فما أحلى الجلسات والخلوات والمؤتمرات.. وما أحلى الثرثرة فوق بحيرة ليمان.
أما الوضع في لبنان، فيمكنه الانتظار على الأقل حتى يعود الغياب.
ومنا السلام إلى جميع الأصحاب والأحباب لديكم. طمنوهم عنا، نحن بخير والحمد لله من قبل ومن بعد.