الجبل سندس وأقحوان وزيتونة مباركة وسنديانة عتيقة، وحقول من شقائق النعمان تتفجر كما اللهب المقدس، ووجوه الفلاحين تنضح بطيبة أصيلة تتوارى باستحياء خلف ملامح القوة وقوة الشكيمة، والأكف غليظة شققتها مغالبة الصخر لاستنباته لقمة الخبز وما يحفظ للوجه ماءه وللنفس عزتها والاباء.
والدرب راحة كف كفتوحة، كل ما فيها وما حولها أليف، وأنى اتجهت العين يططالعها ما تعودته من المعالم والأشياء، تماماً كصفحة وجه صديق قديم لا يغيب عنك ولا تغيب عنه إلا للقاء جديد.
والناس هو الناس: أنت منهم وهم أهلك وإن اختلفوا معك، وأخوهم أنت مهما قسوا في النقد والاعتراض، فإذا جاءت لحظة الشدة فرشوا الأهداب وأقاموا العيون سياحاً ليمنعوا عنك الأذى… يعرفون السيارة ومن فيها، ويرفعون إليها النظر كلما مرت بهم فقط ليطمئنوا إلى أن الأرض ما تزال تتابع دورانها، وإن الشمس تجري لمستقر لها ، ذلك تقدير العزيز الحكيم.
… لكن تقديراً آخر أوقف الشمس، ذات يوم، وحمد دورة الفلك، فاختفى السندس والأقحوان والزيتون والسنديان مخلية الأرض جميعاً لشقائق النعمان المجللة بالأسود والباقية لهباً مقدساً وشاهداً خالداً لا يسقط ولا يزول ويقول من غير أن ينطق ما تتلجلج به ألسنة القادرين على النطق!
ذهب وقت البكاء والتحسر على ما كان،
وليس بيننا اليوم من يندب كمال جنبلاط أو يتصدى لرثائه من موقع المفجوع بماضيه.
إننا نذكره بقدر ما نفتقده، لأننا نعرف – باليقين – كم كان أساسياً وضرورياً ولا غنى عنه في “معركة الحل”، أي في الجولة الحاسمة، الجولة – الختام لهذه الحرب التي تبدو – في غيابه – وكأنها بلا نهاية.
وهذه الألوف المؤلفة لا تحتشد في ذكراه السنوية، ولا ترفع قلوبها ودماءها فوق أكفها وهي تعاهده على إكمال المشوار، حباً بالسلاح والقتال وسفك دماء الأخوة – الأعداء بل طلباً للحل الوطني للمسألة اللبنانية الذي كان كمال جنبلاط الأقدر على صياغة وإقناع الناس به.
إننا نعرف، كما يعرف الآخرون بمن فيهم خصوم كمال جنبلاط، وبالتحديد أولئك الذين غيبوه، إن السلاح وحده لا يحسم الأمور ولا ينهي الحروب في لبنان، لا هم يتم وحدة الشعب الناقصة والمنقوصة، ولا هو يحول الكيان المركب إلى وطن حقيقي.
لقد قام لبنان، وهو باق حتى الآن، نتيجة قرار دولي – عربي، سلم به اللبنانيون وارتضوه مصيراً ضمن ما ارتضت أمتهم ومنطقتهم من مصير، في انتظار أن تصنع قدرها بيدها ولا يكون قراراً من الغير،
وليس بسلاح الحرب الأهلية والقتل على الهوية والمذابح الطائفية والميليشيات يمكن اصطناع الأوطان، فالسلاح يواجهه ويعطله السلاح، فإذا زاد هنا زاد هناك وتزايد عدد الضحايا، وتناثر الوطن أشلاء مبعثرة لا تجمعها فيدرالية ولا كونفيدرالية ولا أي صيغة حاضنة وحافظة للتعددية الحضارية.
إننا نستذكر كمال جنبلاط ونفتقده لأن غيابه أسقط احتمال الحل الوطني، ولأن الذين بقوا بعده، خصوصاً من المتباهين بحمل السلاح، لم يفعلوا غير إضعاف هذا الاحتمال، وابعدوا الحل حتى صار رهاناً على المجهول.
والساحة مفتوحة، بعد، لرجل يلوح بالحرب ليوفر الحل، ولا يلعب بالحل ليمد فقط في عمر الحرب.
وهؤلاء اللاعبون سيكونون، في خاتمة المطاف، وقود الحرب التي لم يعرفوا متى وأين يوقفها.