الحمد لله أن المسؤولين في بلادنا يتعاملون مع نوع واحد من “النقد”، وهو يصفحهم ويحميهم – في الغالب – من “النقد” الآخر، ذلك الذي ينشر أحياناً في الصحف أو يبث – في النادر – عبر الإذاعات ويضيع – دائماً – مع الريح!
الحمد لله أن عقولهم راجحة، وضمائرهم خفيفة بل ورمزية في حضورها، وإنهم من خريجي مدرسة “الشاطر ما يموت” و”إذا هبت رياحك فاغتنمها”، وليسوا من المتطهرين والمتشددين في رفض الهدايا من رعاياهم المخلصين، وهم لا يأتمون بالرسول العربي إلا في قول منحول عنه يفيد بأنه – صلى الله عليه وسلم –قد قبل الهدية!
وتصوروا أية كارثة كانت ستقع لبلادنا لو أن كل مسؤول فيها اتهم بأنه استغل نفوذه أو موقعه في سد الحكم للحصول على قرض لشراء شقة، قد لجأ على أسلوب مستنكر كالذي ابتدعه رءئيس وزراء فرنسا السابق بيار بيريغوفوا، قبل ثلاثة أيام، فانتحر برصاصة في رأسه!
لو انتحر كل من “قيل” أو “أشيع” إنه قبض رشوة مقدارها مائة وثمانون ألف دولار لما بقي من المسؤولين والسياسيين النافذين في بلادنا إلا قلة قليلة تكفي أصابع يد واحدة لحصرها و”التشهير” بها!
أمين الجميل وحده متهم باختلاس مئات ملايين الدولارات، ومن موقع رئاسة الجمهورية. وليس مما يخفف جرمه أن يكون قد “هدر” أكثر مما اختلس شخصياً، أو أن يكون قد سهل لشركائه وأعوانه أن يسرقوا وأن يهربوا المسروق من المال العام إلى خارج البلاد!
وقبل أمين الجميل وبعده تلغط ألسنة “الدهماء” بأسماء العشرات من المسؤولين ، رؤساء ووزراء وكبراء، وتساق ضدهم أدلة قاطعة تفيد بأنهم “اهدوا” أنفسهم مناطق وعمارات وقصوراً وشركات ومصارف، من دون أن يأخذهم خوف من أن يساءلوا أو يسألوا ذات يوم: من أين لكم هذا؟!
وفي أقطار عربية أخرى، خليجية ومغربية، كما في أرض الكنانة، “طارت” مليارات من الدولارات، في “سوق المناخ” أو في “مصرف الاعتماد والتجارة الدولي” أو في شركة الاستثمارات الكويتية، أو في شركات “الريان” و”السعد” فلم يثبت أن ثمة مسؤولاً عن تلك النكبات والسرقات الموصوفة…
وبطبيعة الحال لم يتصرف أي مسؤول “ظنين” بمثل الغباء الذي أقدم عليه رئيس الحكومة الاشتراكية الأخيرة في عهد ميتران، بل الاشتراكي الأخير في ذلك الحزب الذي استخدمه الرئيس الفرنسي سلماً ثم حطمه وحطم رجالاته بعدما استتب له الأمر لولايتين رئاسيتين طويلتين (14 سنة) في البلاد التي اشتهر أهلها بضيق الصدر واحتراف “النرفزة” والميل إلى التغيير والتجديد.
هذا من دون التطرق إلى مسؤولية الحروب وهزائمها ونكباتها المادية الهائلة، باعتبار أن خسائرنا البشرية فيها لا تلحظ لأننا “أمة ولود”!!
بيار بيريغوفوا ليس “وجه نعمة”!
لقد ولد فقيراً، وفقيراً عاش، وفقيراً مات، وهو الذي طلع السلم من تحت تحت حتى بلغ ذروته…
وزير مالية لبعض سنين، ورئيس حكومة فرنسا لسنة، ثم يموت مديناً بثمن بيته… أي غباء، واي نموذج سيء للحاكم!! اللهم أحمنا من أمثاله،
… وخصوصاً وإن “الهدايا” في بلادنا صار مفردها بالملايين، وإن كرم مسؤولينا – أو بعضهم – قد غطى على حاتم الطائي الذي يجب أن يتوارى في بطن كتب التاريخ حياء من شحه بالقياس إلى الطائيين الجدد!
هل تريدون دليلاً جديداً على أن الفقراء لا يصلحون حكاماً؟!
… هذا إذا ما تجاهلنا رأي المسؤولين عندنا، الذين ينحرون ولا ينتحرون، والقائل بأن هؤلاء الفقراء لا يصحلون أيضاً كمحكومين!
بيار بيريغوفوا،
رحمة الله عليك من ضحايا رؤسائهم جميعاً، وهم الأكثرية الساحقة في بلادنا المنهوبة الخيرات عداً ونقداً أو ذهباً سائلاً، لا يهم لونه!
والنقد الفردي قد يقتل، فكيف بالنقد الذي يغطي السماوات والأرض؟!