عظيماً كان الرحيل، لكأن اللبنانيين جميعاً مدعوون أو عازمون أو مساقون إلى الرحيل.
مهيباً كان الدوي حتى ليليق بلحظة اغتيال “الجمهورية الجديدة” والرئيس الذي جاء باسم الوفاق الوطني لينتهي به وعلى يديه زمن الحرب الذي طال واستطال فبات تاريخاً وليس حقبة في عمر المنسيين.
مفزعاً كان دخان القتل الأسود وهو ينعقد دوامة من القتامة والرهبة وأنفاس الموت ثم وهي تتلاشى مع الريح والأمل الذي ضاع مخلفاً وراءه الخواء والحيرة والقنوط وحطام الحل العربي المعزز بتأييد الدول جميعاً، عظماها وأدناها، في الشرق والغرب وما بينهما.
مبكراً جاء القاتل، سابق الفرحة اليتيمة في دهر الأحزان فسبقها وكمن لها بمائتين وخمسين كيلو “ت.ان.ت” فأرداها مضرجة بدماء الاستقلال، مستبقياً أمامنا شبح التقسيم وجنرال الموت وهموم افتقاد الوحدة – الدولة – السلام ولو كامل بعيد المنال.
ومبكراً جاء يوم اغتيال العرب في عاصمتهم – الأميرة : بيروت!
ولقد جاء القاتل في قلب النهار، وارتكب جريمته في قلب المدينة، موجهاً رصاصه إلى قلب الحل وصورته المشعة بالتفاؤل والطيبة وحسن النية: رينيه أنيس معوض الزغرتاوي.
ويا اللجنة العربية العليا: عوضنا الله سلامتكم. لقد ذهب “المعوّض”!
دمه على كل الوجوه: رينيه معوض.
دمه في الضمائر جميعاً: رينيه معوض.
ثأره على الناس كلهم: رينيه معوض.
بيروت الآن تتنفسه . لقد غدا الهواء فيها ونسمة الصبح الندية.
ولبنان ينبض في صدره الآن قلب رينيه معوض حيث تستوطن نايله وريما وميشال وسائر اللبنانيين.
لقد انتثر جسده في أربع جنبات المدينة. جاوز خط التماس فألغاه، ومرق من بوابات العبور الكرتونية فهدها، وانتشر فوق البحر وعبره مع ريح الشمال حتى ملأ المساحة ما بين الناقورة والنهر الكبير، ثم مضى قدماً عبر دمشق نحو الطائف التي ولدته ثم ثكلته قبل أن تصله أو يصلها.
موصوفة هي الجريمة ومعروف هو القاتل والشركاء، المسهل منهم والمتواطئ والمتستر والغاسل يديه من دم هذا الصديق.
بل لعلها أكثر الجرائم علانية في التاريخ! فالقاتل يحتل شاشة التلفزيون ومايكرفون الإذاعة ويقول لمن “يبحث” ضائعاً أو مستريباً: أنا هو غريمك فتعال خذني إن كنت تملك ثمن بعبدا والملجأ الجمهوري فيها!
أما المسهل فهو المتردد بحجة الحرص على الدم الأزرق للطائفة العظمى، أما دم الوطن فيمكن تجديده ولو بعد حين!
وأما المتواطئ فهو المتذرع بخوفه من بطش الجنرال به. والتارك يد الجنرال طليقة تفتك بالساعين إلى حل يحمي وحدة لبنان واللبنانيين.
المتواطئ هو المنظر العقائدي لطروحات الجنرال التقسيمية، المقاتل من قبله ضد الوحدويين، والمفترض نفسه الوريث الشرعي للدويلة التي اصطنعها هو ثم سلمها مفروشة لجنرال الخريف.
وأما المستر فهو الذي سعى إلى عقد مصالحة بين القاتل وضحاياه بحجة إنقاذ وحدة الطائفة، متناسياً إن وحدة الطائفة في هذه اللحظة هي مشروع صهيوني يشهر الحرب على العرب ويدمر ما تبقى من أسباب الوحدة بين اللبنانيين.
وأما الغاسل يديه من دم هذا الصديق فهو الذي بلع الاعتداء عليه وتجاهل دوافعه وارتضى أن يعود ليمنح بركته لمن أجبره على أن يقبل صورته ويحلها محل صورة البابا في مقره ذي الحصانة.
دم رينيه معوض في أعناق هؤلاء جميعاً.
ودمه أيضاً في أعناق أولئك الذين تناحروا على عدد الحقائق وتسمياتها. فعطلوا مسيرة بناء المؤسسات الشرعية، واستصدار القرارات البديهية التي تنهى – بالمعنى القانوني – عصر الجنرال وصفاته المنتحلة وسلطته المختلسة في ربع الساعة الأخير من ليل أمين الجميل.
دم رينيه معوض في أعناق هؤلاء جميعاًز
ودمه أيضاً في أعناق أولئك الذين تناحروا على عدد الحقائب وتسمياتها، فعطلوا مسيرة بناء المؤسسات الشرعية، واستصدار القرارات البديهية التي تنهى – بالمعنى القانوني – عصر الجنرال وصفاته المنتحلة وسلطته المختلسة في ربع الساعة الأخير من ليل أمين الجميل.
دم رينيه معوض في عنق أمين الجميل، تماماً مثل دم اللبنانيين جميعاً، من قضى نحبه منهم ومن ينتظر.
هو “الحل”، قالوا.
وقالوا إن معه الدول جميعاً، والدول متى قالت فعلت. لكن الدول جاءت فرمت التهاني من الشباك وانصرفت إلى اهتماماتها الفعلية… وغداً يجيء القناصل بثياب الحداد لتقديم التعازي وإظهار الأسف على الغياب المبكر لرجل الوفاق الوطني، مع التعهد مجدداً بالولاء المطلق لاتفاق الطائف.
الدول لا تعرف الحزن، الدول لا تعترف بالعواطف ولا بأصحاب العواطف والطموحات والأحلام العراض، هي لا تعترف بالنساء والرجال البسطاء. لا تعترف بالصبايا المتشوقات إلى العشق، ولا بالصبية الذين يشترون مستقبلهم بضياء العيون، الدول لا تعترف بأحزان الشعب الصغير.
هو “الحل” قالوا، وانصرفوا!
ولكن من يحمي “الحل” ويحصنه ضد المتضررين من الحل، المنتفعين بالحرب، الباقين ببقاء الانقسام، الزائلين بقيامة وحدة الشعب والأرض والدولة الواحدة الموحدة بمؤسساتها كافة؟!
يحيمه اتفاق الطائف، قالوا،
ولكن من يركب لاتفاق الطائف الأسنان؟!
لقد حماه اللبنانيون المتشوقون إلى غد السلام والوحدة بقلوبهم، لكن هزيمة الجنرال، لا تتم بالهتاف والزغاريد وبرقيات التأييد، بل هي تحتاج معها إلى بعض البارود والنار والموقف الحاسم.
فالموقف الرخو والمائع يقتل “الحل” ورجله ووعد الجمهورية الجديدة.
بينما الموقف الجدي سلاح فعال يشل أعداء الحل ويقضي على مشاريعهم الجهنمية، مهما كانوا يملكون من عدة القتال، مدافع وأموالاً ورجالاً موتورين بحمى التعصب الطائفي وأحقاد الإخفاق في تمزيق أواصر القربى بين اللبنانيين وأهلهم العرب.
وليست مصادفة “قدرية” أن يقضي رينيه معوض شهيد الحل العربي لتجديد وحدة لبنان بينما ميشال عون يحتفل بـ “الاستقلال” عن لبنان – الجمهورية الجديدة – جمهورية الوفاق الوطن – جمهورية المؤسسات.
كان رينيه معوض يحاول “تكبير” الطائفة لتصير بحجم لبنان وحلمه.
وكان ميشال عون يحاول تصغير لبنان ليصير أصغر من بعض الطائفة التي يصادر قرارها ويتخذها رهينة،
ولقد وجد الجنرال من يحميه ويحمي دوره التدميري منذ “ظهوره” كمرشح “القوات اللبنانية” لقيادة الجيش، ثم كمرشح أمين الجميل لإتمام مهمته في تمزيق لبنان.
بينما لم يجد رينيه معوض من يحميه ويحمي معه دوره التوحيدي تحت لواء اتفاق الطائف المجسد لإرادة عربية شبه إجماعية ولقرار دولي لم يسبق له مثيل.
لقد استشهد رينيه معوض. لكن لبنان باق لن يموت.
ومن قبل استشهد رشيد كرامي، لكن لبنان بقي واستمر أهله، في الداخل والخارج، يناضلون لحماية حقه في الوحدة، حقه في تجديد نظامه، حقه في الوجود.
والقاتل واحد في الحالين.
هو على حد تعبير وزير خارجية الجزائر، سيد أحمد غزالي، “من كان يهدده ويهدد النواب الذين اجتمعوا في الطائف”.
والوزير الجزائري كان بين من سعى، بأعصابه وجهده وسهره وكفاءته، لإنجاح الطائف.
لكن عدم الاقتصاص من هذا القاتل، أثر جريمته الموصوفة الأولى (اغتيال الرئيس كرامي) مكن له وشجعه على اقتراف جريمته الموصوفة الثانية.. وهو محترف قتل، سيقتل غداً وبعد غد كل من يجد فيه تهديداً لهوسه بالسلطة ومشروعه التقسيمي المعلن.
فعسى يتمكن الرئيس الأميركي جورج بوش من تنفيذ تعهده الذي أطلقه أمس، بجلب القتلة إلى العدالة، طالما إنه لم يتمكن لسبب لا نعرفه من منعهم من اقتراف جريمتهم.
وإنه “لأمر مروع أن تنتهي اللجنة الثلاثية”، كما قال الأردن، ولكن حزننا على رينيه معوض في لبنان مضاعف إذ نخشى أن تكون اللجنة قد “استشهدت” معه، فمن لم يستطع توفير مظلة الحماية لمشروعه السياسي مشكوك في نجاحه في حماية ذاته.
بيروت أرملة، مرة أخرى. ولبنان ثاكل، مرة أخرى، لقد مشى رينيه معوض على طريق رشيد كرامي. كلاهما افتدى الدولة باعتبارها رمز توحيد.
لقد قتلوه في قلب النهار. قتلوا قلب النهار وأعادوا البلاد إلى ليل التشتت والتمزق وخطر الاقتتال حتى الإبادة والانتحار الجماعي.
قتلوه في قلب المدينة. قتلوا المدينة الجريح. ما لم تدمره المدافع فيها قضت عليه الجدران المفخخة.
لكن لبنان يجب أن يبقى، وجمهوريته الجديدة المعمدة بدماء رينيه معوض لا بد أن تقوم، وبأسرع مما يقدر القتلة أعداء الوحدة، أعداء الدولة، أعداء العرب، أعداء السلام، أعداء الغد الأفضل.
وعلى نواب لبنان أن يتلاقوا اليوم قبل الغد لإعادة انتخاب رينيه معوض، بأي “رفيق سلاح” على صورته ومثاله، رئيساً للوفاق الوطني، الوفاق مع الذات ومع الهوية، مع الأرض والشعب، مع الجغرافيا والتاريخ.
وللبنان العزاء في شهيده الجديد بتأكيد وحدته وإصراره على وفاقه الوطني المعمد بدم رينيه أنيس معوض الزغرتاوي.
ولنائلة وريما وميشال معوض كل البيوت، كل القلوب، كل الحب والإجلال في لبنان الذي سيبقى وسيبقى واحداً، بفضل أبنائه المناضلين لبقائه وفي الطليعة منهم شهيدنا الجديد.