إذا كان العالم كله، وعلى مستوى الشعوب خاصة، يعيش حالة حزن حقيقية اليوم، وهو يشيع الرئيس اليوغوسلافي جوزيب بروز تيتو إلى مقره الأخير، فإن العرب يبكون في”آخر عمالقة هذا العصر” صديقاً حميماً أنزلوه من قلوبهم ووجدانهم واهتماماتهم منزلة ضنوا ويضنون بها على العديد من ملوكهم ورؤسائهم و”القادة المعلمين”.
وكثيرة كثيرة هي البيوت العربية التي أعطت موقع الصدارة فيها لصور تيتو الذي شكل مع الصديق الحميم والعظيم الآخر جواهر لآل نهرو ركائز الاعتراف الدولي بحق العرب في التحرر والكرامة والتقدم وانتزاع الاعتراف بمكانتهم وأهمية حركتهم الثورية بقيادة جمال عبد الناصر.
لقد تربى جيل كامل من العرب على اعتبار تيتو “بطلاً” يخصهم ويخص تراث نضالات الشعوب المقهورة والمغلوبة على أمرها بقدر ما يخص شعوب بلاده التي حولها من مزق متناثرةفي إمبراطوريات مندثرة إلى دولة عصرية لها دورها الفاعل وكلمتها المؤثرة في شؤون العالم.
بل إن هذا الجيل كان يرى في تيتو “النموذج” و”القدوة” لما يجب أن يراه في قيادات حركته الثورية: فتيتو هو القائد الفذ الذي حقق بالضبط المطامح والأهداف التي يناضل لتحقيقها العرب منذ بداية نهضتهم الحديثة.
فتيتو – في العقل العربي – رمز للقائد الموحد، وليس أعز عىل قلب العربي من كلمة الوحدة وفكرتها، وبلا شك فإن مجد عبد الناصر الباقي أنه هو، من دون غيره من قادة العرب، الذي اندفع على طريق تحقيق الوحدة، وأنه أكد إمكان إنجازها إضافة إلى ضرورتها، وكشف طبيعتها بوصفها المعركة الأم والمدخل الوحيد إلى أهداف النضال العربي جميعاً.
وتيتو – في العقل العربي – رمز لقدرة الأمة الفقيرة والضعيفة الامكانات على تحدي القوى العظمى والخروج على إرادتها والصمود أمام ضغوطها الهائلة، بل والوصول إلى منازعتها موقع القيادة والتأثير على السياسات الدولية.
وبلا شك فإن تجربة عبد الناصر الغنية تدين بقدر من الفضل لتجربة تيتو الرائدة في هذا المجال، كما أن بعض صمود التجربة اليوغوسلافية والمكانة المتميزة التي احتلها قائدها على الصعيد العالمي يعود الفضل فيه إلى الدعم غير المحدود الذي لقيه من صديقيه الكبيرين نهرو وجمال عبد الناصر.
لقد قدم الثلاثة معاً، ومعهم سائر رفاقهم من رموز “الحياد الإيجابي” ثم حركة “عدم الانحياز”، نموذجاً فريداً لقدرة الشعوب على صنع مصائرها وتجاربها المستقلة، وأكدوا سقوط الخرافة القائلة إن ما تقرره القوى العظمى هو “القدر” الذي لا مفر منه ولا راد له.
وليس من المصادفات المجردة، مثلاً، أن تكون لجوزيب بروز تيتو – الماركسي الغربي – مكانة خاصة في إيران الثورة الإسلامية تكاد تداني منزلة جمال عبد الناصر.
كذلك ليس من العبث ألا يجد معمر القذافي رمزاً لرموز عدم الانحياز، بالمعنى الفعلي وبالمضمون التقدمي بل الثوري في حالة الشعوب المستضعفة ، إلا جوزيب بروز تيتو.
لقد خسرت يوغوسلافيا زعيمها العظيم، وخسر العالم واحداً من قادته الأقذاذ، ومعهم خسر العرب صديقاً كبيراً وقف معهم وساندهم، في السراء والضراء، ولم يخذلهم في أي يوم، ولم يبتزهم نفطاً أو مصالح اقتصادية أو مواقف غير منطقية.
لهذا كله فإن العرب يبكون تيتو اليوم مرتين: مرة لأنه رحل تاركاً فراغاً مفجعاً في العالم، ومرة أخرى لأن رحيله يفرض عليهم مقارنة موجعة بينه وبين من يحكمونهم الآن، وبالتحديد بين ما حققه في بلاده ولبلاده وبين ما لم ولن يحققوه في بلادهم ولبلادهم.
والمعزون في بلغراد، أما العزاء الحقيقي فهنا، في البيوت العربية، وعلى النطاق القومي الفسيح.