طلال سلمان

على الطريق تدويل الرعونة لضرب الحل العربي

قدمت فرنسا، برسمييها وقياداتها السياسية المتنازعة، خدمة جلى للجنرال ميشال عون، إذ أظهرته “عاقلاً” و”متزناً” و”حكيماً” قياساً إلى رعونة نجوم الحياة السياسية والفكرية في باريس.
فالجنرال الذي قال في تصريح للتلفزيون الفرنسي إنه “أكبر المجانين في العالم” إذا كان “التحرير” جنوناً، عليه أن يتواضع كثيراً إذا ما قارن نفسه بمشاهديه ومشجعيه والمعجبين بوجوه الشبه بينه وبين نابليون التي لم يستطع تحديدها بدقة، في المقابلة ذاتها.
على إن الخطير في الرعونة الفرنسية إنها تكاد تقضي على “الحكمة العربية” التي انتظرنا طويلاً، والتي تجلت أخيراً عبر اللجنة السداسية للمساعي الحميدة المعقودة اللواء الشيخ صباح الأحمد الصباح.
أي إن الرعونة الفرنسية تكاد تسد الباب الأخير للأمل في مبادرة تمهد لمشروع تسوية ما، أو هدنة طويلة ما، تمكن اللبنانيين من التقاط أنفاسهم ومحاولة التوافق على مخرج من أزمتهم الخانقة التي بدأت سياسية وما زالت سياسية وستبقى سياسية حتى يتم ابتداع الحل السياسي المناسب لها، بتعقيداتها وتشابكاتها الإقليمية والدولية.
إن المدافع لا توفر مثل هذا الحل، وقد ترسخت هذه الحقيقة، عبر السنوات الطويلة للحرب بكل مآسيها وفواجعها التي كادت تذهب بالبلاد وشعبها.
كذلك فالرعونة والهوس والنزق والانفعال والتعصب والتطرف كل ذلك لا يحل شيئاً، بل هو يعقد الأمور، سواء أكان مصدره داخلياً أم خارجياً،
ولقد ابتلينا بداية بأرعن يحمل مدفعاً،
وها نحن نبتلي بمن يشجعه ويحرضه على استخدام سلاحيه معاً، ليس فقط ضد اللبنانيين الذين لا يتبنون نظريته في “التحرير” ، وليس فقط ضد “المحتل السوري” ، وإنما أساساً ضد مشروع الحل العربي للأزمة اللبنانية الذي تشكل اللجنة السداسية العربية إطاره وأداة تحقيقه، ولو بعد حين.
لقد خبر اللبنانيين عبر تجربتهم الطويلة والمريرة الأساليب جميعاً، وجربوا – وأكثر من مرة – طريق تدويل أزمتهم، فلم يجنوا من التجربة إلا المزيد من الخراب والدمار وتعزيز التيار التقسيمي على قاعدة طائفية، وعبر استعادة بعض فصول التاريخ الاستعماري في “حماية الأقليات”.
فالتدويل، بالنسبة للبنان، هو باب مفتوح على الهاوية، أي على حرب أهلية محلية أولاً ثم عربية لا تبقي ولا تذر.
“التدويل” هو كلمة السر التي تطلق لتعميم الحرب الأهلية اللبنانية وتوسيع رقعة انتشارها بحيث تحرق نارها القريب والبعيد من العرب،
و”التدويل” ليس إلا مؤامرة استعمارية تهدف إلى إنجاز ما لا تستطيع إسرائيل إنجازه بقدراتها الذاتية معززة بالدعم العسكري والاقتصادي الأميركي (والغربي) غير المحدود،
فمام من مرة رفع فيها شعار التدويل في لبنان إلا وكانت تتم في المقابل عملية قضم معينة أو عصر أو تصفية معينة للقضية الفلسطينية، بما هي القضية القومية الأولى.
وأول مرة استخدمت المارونية السياسية سلاح التدويل كانت في وجه دولة الوحدة الوليدة، الجمهورية العربية المتحدة، العام 1958، وهو المشروع القومي الأمجد والأعظم الذي كان نجاحه يعني التقدم خطوات على طريق تحرير فلسطين، أي إنه – من وجهة نظر الغرب – يشكل التهديد الأخطر على وجود الكيان الصهيوني ومستقبلهز
المحطات التالية كانت على طريق تصفية القضية الفلسطينية والتشهير بالعرب عبر لبنان،
يكفي التذكير بمحاولة التدويل في 1978، وهي قد جاءت متزامنة مع معاهدات كامب ديفيد وخروج مصر من ساحة الصراع العربي – الإسرائيلي.
… ثم محاولة التدويل في 1983، التي جاءت متزامنة مع اتفاق 17 أيار الذي كان يهدف إلى جر لبنان لتوقيع ثاني معاهدة للصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي،
وها هي المحاولة الجديدة للتدويل تتم اليوم وبينما تحاول إسرائيل التفاهم مع الإدارة الأميركية الجديدة على صيغة عملية لتصفية نهائية للقضية الفلسطينية عبر مشروع إسحق شامير للحكم الذاتي في الأراضي المحتلة.
هل “التدويل” في لبنان هو الرد الغربي على الانتفاضة الفلسطينية المجيدة، في الأرض المحتلة، أم إنه قنبلة الدخان التي يراد بها إخفاء ما يدبر للقضية – الأم، بحيث يسهل بعد تمرير تصفية القضية الفلسطينية إعادة رسم خريطة المنطقة بما يناسب المصالح الغربية وأهمها وأخطرها الكيان الصهيوني؟!
وهل فرنسا هي المكلفة بهذه المهمة القذرة، أم إن الرئيس الفرنسي ميتران قد انتدب نفسه لها وهو الذي يهوى الأدوار “التاريخية” ، وقد لعب أولها في جزائر الثورة العام 1954؟!
ما علينا، لنرجع إلى “الرعونة” المحلية قبل أن يتم “تدويلها” بكل النتائج المدمرة المترتبة على هذا التطور الدراماتيكي في مسار الأزمة.
هل فكر المطالبون بالتدويل والمتحمسون له بآثار مثل هذه الجريمة على مستقبل لبنان واللبنانيين؟!
وهل تستحق المطالبة بالاصلاح السياسي للنظام، وبالحد الأدنى، مثل هذه العقوبة للبنانيين القائلين بها، وللعرب الذين سلموا أخيراً بضرورتها، وبعدما اطمأنوا إلى أن الأميركيين والغربيين عموماً، والفرنسيين منهم، قد اعتبروها مسلمة وأساساً لا غنى عنه لأي حل مفترض للأزمة السياسية في لبنان؟!
وهل المطلوب تدويل الامتيازات، وهي بالأصل “منحة” من الدول لبعض الأقليات في لبنان، وعلى رأسها الطائفة العظمى؟!
إن مثل هذا المسعى يؤدي إلى تدويل الأزمة وليس إلى تدويل الحل،
وتدويل الأزمة ينهي احتمالات الحل، وقد ينهي احتمالات استمرار الكيان اللبناني نفسه، إذ ينقل النقاش من مسألة النظام وضرورة إصلاحه سياسياً، إلى مسألة الكيان وهل وجوده ضرورة أم لا؟!
ثم إن التدويل فيه من “التهويل” أكثر مما فيه من الجد،
وما معنى الحديث عن الحوار الداخلي وعن التفاهم بين أطراف النزاع اللبنانيين إذا كان بعضهم قد حسم أمره وقرر توسيع دائرة الحرب وتعريبها، بدل أن يمهد ويساعد على إنجاز مشروع الحل العربي؟!
إن الذي يقول بتعذر التفاهم مع دمشق، وعبرها مع سائر اللبنانيين، لا يمكن أن يكون جاداً وهو يدعوهم إلى التفاهم عبر باريس أو عبر مجلس الأمن الدولي في نيويورك.
والذي يسحب قضية لبنان بعيداً عن أرضه وعن شعبه إنما يخدم، بالقصد المقصود أو بالرعونة المشهودة، العدو الإسرائيلي وسائر القوى التي تريد الخلاص من لبنان الواحد الموحد، السيد المستقل الحر، ذي الهوية العربية والانتماء القومي الصريح.
وإذا كانت الرعونة الفرنسية تغطي وتغلف مصالح محددة، ليس بينها مصلحة لبنان في أي حال، فإن الرعونة المحلية لا تكفي لتغطية حقيقة الدور الذي يلعبه أبطالها كمرتزقة لمصلحة الآخرين،
والآخرون هنا أعداء لبنان قبل أن يكونوا أعداء سوريا وسائر العرب،
والكلمة بعد للجنة العربية، ولشيخها صباح الأحمد، وللجامعة العربية.
إنهم مطالبون بالدفاع عن أنفسهم، وليس عن اللبنانيين،
فهم الذين يضربون الآن… ومن “بيت” أبيهم، يضربون!

Exit mobile version