مثقلة هي الذاكرة بأخبار السوء والأحزان وصور الخيبات والاندحار، لكن ذلك اليوم – 13 نيسان 1975 – لا يحول ولا يزول ولا ينزل أعلامه السوداء المبرقعة بالدم والتي لم نعد نراها لشدة تعودنا ثباتها في أحداق عيوننا المسكونة بفراغ الذعر والتبلد والعدمية.
استبقت الرصاصات الأولى ظهيرة ذلك الأحد، معلنة انفجار الحرب الأهلية التي لم تفاجئ – فعلياً – إلا بسطاء الناس، أي ضحاياها، بدليل تلك الاستجابة شبه الفورية لمنطقها واحتياجاتها، سواء في الداخل أم في الخارج.
كان الأطراف الأساسيون قد أنجزوا، قبل ذلك اليوم بسنوات طويلة، تدريب عسكرهم، وأنشأوا أو هم وضعوا اليد على الثكنات التي ستكون مخازن ذخيرتهم ومهاجع جنودهم، وتخيروا المقار البديلة للقيادات “التاريخية” أو التي ستغدو كذلك، وحددوا فوق أجساد القرى والأحياء مرابض مدفعيتهم.
والأهم: إن الخطاب السياسي لكل طرف كان قد أعد وبدأ يبث على “الجماهير” لتعبئتها بحيث تكفي الطلقة الأولى لاستنفارها وفرض انقسامها على جبهتين متقابلتين لكل منهما “شرعيتها” و”مشروعيتها” وأهدافها “المقدسة”.
وبمثل السحر صار كل ما يربط فاصلاً، من التاريخ إلى الطريق، ومن الجغرافيا إلى الانتماء، ومن اللغة إلى الدين، ومن الايديولوجيا إلى الانتهازية السياسية.
بين الضحى والعصر كانت المدينة – الجنة قد وجدت طريقها للتحول إلى جحيم، فلبست ثياب الحرب المرقطة كالأفعى والتي لم يتسن لها أن تستبدلها على امتداد زمن الدم إلا بالأسود، الرمز المكثف للحزب واليأس والفشل والخيبة والعجز عن تجاوز الهزيمة.
ومع كل رصاصة وطلقة مدفع وغقامة ساتر أو حاجز كان الجميع يتوغلون في مستنقع الموت مبتعدين عن “قضيتهم” وشعاراتها الصاخبة يستوي في ذلك “الفلسطيني” واللبنانيون على تنوع جبهاتهم وأهدافهم السياسية المعلن منها والمضمر.
ويوماً بعد يوم وسنة بعد سنة بدأوا يتحولون من القتال ضد الآخر إلى القتال ضد الذات… فلقد موه العدو نفسه وأخذ ينتقل ويستبدل أسماءه وملامحه حتى زرعها في الجميع ثم تحصن خلفها، وترك ضحاياه يطلقون رصاصهم على وجوههم السمراء!
وعبر التحول كان الأطراف جميعاً يسترهنون ويسلسون قيادهم أكثر فأكثر لمن هو أقوى منهم، ولمن يستطيع أن يدفع لهم ويزودهم بوسائل الاستمرار على شفا الموت لا يتنفسون إلا هواءه العطن.
… وها هي الميليشيات اليوم، وعشية انطفائها، تظهر ما استبطنت من حقائقها: فهي ليست أكثر من أسماء حركية لتلك القوى “الكبيرة” التي اقتحمت المسرح عندما أزف الموعد فأعطت إشارة الختام، معلنة “نجاح الجميع” موزعة الجوائز بالعدل والقسطاس على كل من شارك – مباشرة أو مداورة – في هذه الحرب التي لم يكن لأي حرب أخرى مبررات أكثر وجاهة منها والتي تكاد تنتهي بغير تبرير منطقي بالأهداف المعلنة لأبطالها الكثر.
هل هي النهاية حقاً؟!
وهل ما يعيشه اللبنانيون و”يتفرجون” عليه بالصوت والصورة الملونة غير مصدقين، حلم أم خرافة أم واقع صلب وإن رطبته أمطار اليوم الأخير من نيسان “التي تحيي الإنسان”؟!
هل أزف موعد المصالحة بين المهزومين، بمعزل عن ادعاءاتهم، بعدما سلم كل بأنه قد وصل إلى غير مقصده، أو إن الفلك قد دار به فأعاده إلى نقطة البداية… بعيداً عن أجداث شهداء المسيرة الذين بالكاد يتذكرهم قادتهم وقتلتهم في حمى الاحتفال البهيج!
… واتفاق الطائف حمال أوجه، ولكل أن يأخذ منه ما يتسق مع تبريره الذاتي للخروج من حرب لم تعد قائمة،
… واتفاق الطائف يتسع لكل شيء، ولكل الناس، وفيه جوائز ترضية للجميع: إنه لا يلغي أحداً (إلا من كابر فلم يدخل جنته)، ثم إنه يزور أو يموه الوقائع – للضرورة – فيصور الكل منتصرين (ولو على شعبهم)، بأمل أن تستوعبهم دولتهم “الدولية” الآن فعلاً، فيكون “النصر” لها وللقوى التي رممتها وبعثتها حية تحت اسم “الجمهورية الثانية”.
وها هم المختلفون حتى القتل يرمون بعضهم البعض بالورد والقبلات الطائرة، ويتناجون على الهواء، بينما تتماثل مواقفهم إلى حد التكامل “على الأرض”.
بل ها هم يتماثلون – شخصياً – إلى حد إنك قد تخطئ في واحدهم فتحسبه الآخر، ويلتبس عليك الأمر إذا ما قرأت الكلام من غير الصورة فيتهددك الخطر بأن تنسبه إلى أي منهم أو إلى كلهم، فلا هم يغضبون ولا يغضبك تماهيهم في اللغة الواحدة والموقف الواحد، لأنك مستعد لأن تدفع ثمن “السلام” مهما غلا، وكان بعضه عقلك أو المنطق أو الذاكرة المتعبة.
“يا روحي ما بعدك روح”!
… لكأنما السلام الداخلي أهم من حلم فلسطين، وأهم أيضاً من صورة الوطن! والحجة بينة: فالانقسام الداخلي ليس فقط لم يحرر فلسطين ولم يبن في لبنان وطناً، بل إنه قد شكل عبئاً ثقيلاً عليها وأغرى قيادتها بالنموذج الرديء ثم إنه قد ضيع الفرصة “التاريخية” فصارت تكفيك “الدولة” ولو من غير وطن!
من قال إن الحرب الأهلية قد بدأت يوم الأحد في 13 نيسان 1975 فهو مخطئ، إنه يحدد فقط لحظة انفجار الجرح المتقيح.
والصحيح إن هذه الحرب قد ولدت من رحم هزيمة 1967، وجاءت تحمل ملامحها تماماً: منها انبثقت وعليها تغذت وحملت جرثومتها فنشرتها بامتداد الأرض العربية، وإن كان منطقياً أن تتركز في “الجوار الفلسطيني” جغرافياً وأن تحفر عميقاً في الارض الرخوة المسكونة بالاختلاف السياسي النافر بين “المهيمن الخائف” وبين “المغبون المخيف”!
ربع قرن عمر هذه الحرب التي يسدل الستار على مسيرتها الدموية اليوم، بعدما أدت وظيفتها واستنفدت الأغراض المبتغاة منها، ولم يعد لأحد من “الكبار” مصلحة في استمرارها فتلاشت وذهبت مع ريح… عاصفة الصحراء!
ربن قرن،
لكأن عمر الحرب الأهلية في لبنان هو عمر التحول بين الكفاح المسلح بالعمل الفدائي من الخارج وبين المساومة السياسية في الداخل، على الصعيد الفلسطيني.
لكأنه عمر انفراط عقد العمل القومي بمنظماته السياسية وتشكيلاته الثورية القائلة بالتحرير والوحدة والاشتراكية، وها هم عرب 1991 عاجزون عن حماية الحد الأدنى من التضامن في خيمة الجامعة العربية المفتوحة على كل ريح.
لكأنه زمن التحول من الاستعمار الغربي القديم إلى أفياد المشروع الإمبراطوري الإسرائيلي في ظل السلام الأميركي.
لكنها لحظة للفرحن في أي حال،
فالسلام الداخلي عزيز المنال، خصوصاً وإن الحرب الأهلية تمكن للهزيمة القومية – كما دلت تجربة لبنان قبل الاجتياح الإسرائيلي في منتصفها وبعده – ولا تسهل طريق الخروج منها.
ولنأمل أن يجد من “يشتري” هذا السلام ويموله، كما اشترى الحرب – بضحاياها في البشر والحجر – ومولها بما كان يكفي لتحرير فلسطين مرتين (على الأقل) وبناء عشر لبنانات سويسرية!!
ولنأمل أن يغسل مطر نيسان بعض الأدران المتبقية، وأن يكون “تقديم” الساعة اقتراباً بخطى أوسع من الزمن القديم الذيم لم يقدر لأجيالنا الجديدة أن تعيش أمجاده ولو بالذاكرة!