تداعيات
لعل “مؤتمر مدريد” هو بين الفقرات الترويجية للمهرجان العالمي الهائل الضخامة الذي تنظمه إسبانيا منذ سنوات بعنوان “اكسبو – 92” والذي سيفتتح في شهر أيار المقبل، إحياء للذكرى الخمسمائة “لاكتشاف” البحار التائه كريستوف كولومبوس “قارة” بكاملها كانت ضائعة ومفقودة ومجهولة أو أنها سقطت سهواً بمساحتها الفلكية وسكانها وحيواناتها وموقعها الفريد بين المحيطين الأعظم والثالث الغارق في الجليد الأبدي.
ومن المصادفات القدرية إن أصدقاءنا الأسبان كانوا – يومذاك – في ذروة انهماكهم “بالتفتيش” عن بقايا العرب والمسلمين (واليهود) لاستئصالهم عبر “المحاكم” الشهيرة التي كان “قضاتها” يحكمون بالإعدام حرقاً وشنقاً وقتلاً جماعياً ثم يحاكمون أولئك “المستعمرين” القدامى الذين نقلوا عبر أندلسهم المضيعة الاسبان من وهدة التخلف إلى طليعة العالم المتقدم
هكذا، إذن، قاد “التفتيش” الداخلي الاسبان إلى إنهاء الوجود المادي للعرب والمسلمين (واليهود)، كبشر ودولة حولتها المنازعات والمطامع واقتتال الأخوة من ملوك الطوائف، إلى دويلات تافهةن تهاوت كالكرتون أمام تحالف إيزابيلا وفرديناند “بطلي تحرير” شبه جزيرة ايبريا من الغرباء.
وبين نتائج هذا “التحرير” إن الناجين من “محاكم التفتيش” من عرب ويهود قد عادوا معاً متسللين إلى المغرب حيث استقروا في بعض مدنه في احياء ما تزال تسمى بأسماء العائدين من الجنة المفتقدة “الأندلسيين”…
أما “التفتيش” في الخارج فقد أوصل “أنسباءنا” الاسبان إلى “اكتشاف” قارة كاملة، سرعان ما قرروا أنهم أولى بها من أهاليها أصحاب البلاد الأصليين فاستأصلوا المعارض واستعبدوا الباقي، وعادوا إلى ملكهم الجبار بالغنائم والكنوز و”عينات” من البشر الجدد المكتشفين خلف بحر الظلمات،
… ألا تكرر إسرائيل الآن مع الفلسطينيين في أرضهم تجربة “محاكم التفتيش” الاسبانية الشهيرة؟!
فخلاصة السياسة الإسرائيلية المعتمدة رسمياً والمعلنة على العالم والتي يذهب شامير شخصياً إلى مدريد لتطبيقها، أو لفرضها على الأطراف المشاركة، بما في ذلك أصحاب الرعاية (الأميركان والملحق السوفياتي) تقوم على المنطق الآتي:
بقدر ما يؤكد الإسرائيلي إنه إسرائيلي يتوجب على الفلسطيني أن ينفي أو ينكر أو يتبرأ من حقيقة إنه فلسطيني!
واستطراداً يتوجب على العربي أن ينفي إنه عربي، لأنه إن بقي عربياً بقي فلسطينياً والعكس صحيح.
*نموذج “الإسرائيلي” هو إسحق شامير، أي الوافد، الآتي من الخارج، الغربي، الغريب، ابن الحضارة الأخرى والمجتمع الآخر،
بهذا المعنى فليس كل يهودي “إسرائيلياً”، الإسرائيلي هو الغربي من اليهود. هو البولوني، الروسي، الليتواني، الألماني، التشيكي، الفرنسي ومن ثم الأميركي الخ.
حتى ديفيد ليفي، وزير خارجية شامير، ليس إسرائيلياً بالقدر الكافي. ربما لأنه وافد من المغرب “العربي” ويتقن اللغة الغربية كالمجيدين في علومها من أبنائها، لذا عزله من رئاسة الوفد وتولاها بنفسه.
*اليهودي اليمني، اليهودي السوري، اليهودي العراقي، اليهودي اللبناني، اليهودي المصري الخ… أي من هؤلاء ليس “إسرائيلياً” كامل الأهلية. إنه جندي، تابع، خادم، حارسن من “الموالي”. إنه ليس “مواطناً” تماماً. إنه من الدرجة الثانية أو ربما الثالثة. ارفع شأناً بقليل من “مثيله” العربي الآخر، لكنه هو وقود الحرب من مجتمعه الأصلي (أي العربي).
*أما نموذج “الفلسطيني” المقبول إسرائيلياً (حتى إشعار آخر) فهو الذي ينكر أرضه وعلاقته بها وتاريخه وهويته السيايسة ويتنصل من أمه وابيه فيصير “لا أحد”.
من قال إنه “مقدسي” سقطت عنه فلسطينيته. ومن هو في الخارج، لأنه طرد بالقوة من أرضه ممنوع من ادعاء الانتماء إلى فلسطينه. ومن قال إنه من المنظمة أو فيها أو معها (ومنظمة التحرير للفلسطيني هي الاسم والانتماء والوطن) شطبه شامير الإسرائيلي من خانة من يسلم بفلسطينيتهم!
*بالمقابل فمن حق شامير أن يفصل بعض الدروز عن أهلهم وشعبهم وأمتهم وإن “يعينهم” إسرائيليين بعد أن يقرر إنهم “قومية” قائمة بحد ذاتها، منكراً عليهم عروبتهم وإسلامهم وفلسطينيتهم.
المقدسي غير فلسطيني وكذلك الدرزي. ومن هو خارج الأرض المحتلة لأنه مطرود منها بالقوة وممنوع من الإقامة في بيته وقريته أو مدينته هو في نظر شامير غير فلسطيني.
وليست الفتنة وحدها هي الهدف، بمعنى دفع الفلسطينيين إلى الاقتتال باستثارة الغرائز الطائفية أو المذهبية أو العصبيات الجهوية والخلافات العشائرية والمفاضلة بين “الفدائيين” الذين حاولوا ففشلوا في تحريرها من الخارج و”المرابطين” الذين صمدوا فحموا الحد الأدنى من هوية الأرض والشعب،
الموضوع أخطر من ذلك. إن الهدف الفعلي هو إظهار الأرض بلا صاحب وإنسانها بلا هوية ترتبط بها.
** لقد ضغطت إسرائيل بسيناء المحتلة على مصر لتخرجها من عروبتها،
** وتضغط الآن بالجولان المحتل على سوريا لتخرجها من فلسطين،
** وتضغط على لبنان بجنوبه ليخرج على العرب،
** وتضغط على الفلسطيني بالأردن ليخرج عن الوطن والهوية والانتماء إلى الدولة – الكيان – الحرب الأهلية.
بل إنها تحاول شطر الفلسطيني إلى اثنين، أربعة، ثمانية، مائة الخ…
وتحاول استدراج كل شطر لمواجهة الآخر أو الشطر الأخرى: أبناء هزيمة 1948 ضد أبناء هزيمة 1967، وأبناء غزة المحتلة ضد أبناء الضفة الغربية المحتلة، وأبناء القدس ضد أبناء نابلس وجنين والخليل وقلقيلية الخ،
** ثم: تحاول استعداء المسلم على المسيحي، لو أمكن، والاثنين على شقيقهما الدرزي، والبدوي على الحضري، والكل على العرب أجمعين!
المهم تحقيق الهدف الإسرائيلي: يجب أن تظهر الأرض وكأنها بلا صاحب، أما لأنه تخلى عنها فعلاً منتقلاً إلى غيرها من “أرضه” في الخارج (العربي)، وإما لأنه غير قادر على الاحتفاظ بها وربطها (مصيرياً) به كفلسطيني لأن لكل جهة أو لكل طائفة “قوميتها” وأرضها والباقي مشاع!!
** إن الأرض البلاد صاحب يمكن أن تكون لذلك الوافد المتخلي عن هويته وموطنه الأصلي و”أرضه” ومجتمعه (تحقيقاً لنبوءة التوراة!! إذ لا بد من أسطورة دينية تضفي على الاغتصاب طابع القداسة)… وإلا كيف يصبح البولوني هو المالك لأرض فلسطين إن بقي فيها أهلها وبقوا فلسطينيين ولم يصيّروا مسلمين ومسيحيين ودروزاً وبدوا (وقوميات أخرى)، أم لم يصيّروا بالتهجير لبنانيين وسورييين وأردنيين ومصريين وعراقيين وخليجيين (سابقاً)، ولاحقاً أميركيين وكنديين وأستراليين وصولاً إلى أقاصي اسكندنافيا حيث اكتشفت صلة نسب للفلسطينيين بـ “الفايكنغ” من أهالي أقصى الشمال الأوروبي!
** بلا الأرض يصبح ادعاء صاحبها هويته – وهي تنبع منها – مدعاة للسخرية أو الاستنكار أو الإشفاق. تصبح “الفلسطينية” اسماً لقبيلة أو لعرق كالأكراد والشركس والتركمان، وليست انتماء بالوطنية لأرض بذاتها.
إن الهندي الأحمر هو هندي أحمر الآن… في حين لا هو هندي ولا هو أحمر، بل هو – وهو وحده – الأميركي!
إن الوافدين في أثر البحار التائه هم الآن “الأميركيون”، أما الهنود الحمر فمادة للتسلية بتخلفهم وهمجيتهم وبدائيتهم وقبعات الريش والأصباغ والتعاويد وادعاءاتهم “السخيفة” حول ملكيتهم للأرض وانتمائهم إليها وانتمائها إليهمز
آخر التداعيات:
*** الحزن غمامة سوداء، تتكاثف كل لحظة فتكاد تسد الأفق والمسام ومنافذ التنفس.
هذه الصورة الحاضر، إذن: نذهب مجبرين وبالإكراه إلى الأندلس التي ضاع معها الماضي، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا فلسطين ومعها نتف من المستقبل… وأي مستقبل؟!
لا خيار. تفتش، تفكر، تتأمل، تنقب عن التماعة ضوء، وسط القتامة والأحقاد وسفاسف الهزيمة وموبقاتها وإفرازاتها. تتحول القمامة إلى كتلة من الصلب تثقل على الصدر حتى لتحس بالاختناق.
إنها بداية الاعتراف بالواقع المحسوس وإدراك حقيقة الوضع الذي أنت فيه.
تلك هي لحظة ولادة “الواقعية”.
كان ياسر عرفات، وبوصفه الرئيس والقائد و”كل” المناصب في منظمة التحرير الفلسطينية يقول (والكل معه) إن المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد لشعب فلسطين.
اليوم يقول إنه ممثل في “نصف الوفد” الذاهب تحت راية الملك حسين إلى مؤتمر مدريد، ليفاوض حول حقوق من تبقى من الفلسطينيين داخل الضفة الغربية (مع استثناء القدس منها) وقطاع غزة.
كانت تمثل الكل في الداخل والخارج. كانت المرجع والمرجعية والإطار السياسي وعنوان الانتماء الوطني (والقومي).
اليوم يبدو الذاهبون إلى مدريد وكأنهم القيادة المعينة (ومن قبل واشنطن؟) للداخل، بهدف إخراج الداخل من المنظمة، وإخراج المنظمة من فلسطين، وإخراج فلسطين من المؤتمر.
حتى إذا سلمت إسرائيل شامير بمنطق “الأرض مقابل السلام”، الذي لا تفتأ ترفضه كل ساعة، فإن صاحب الحق بالمفاوضة هو من بقي من “الفلسطينيين” فوق ما تبقى من “الأرض” الفلسطينية (أي التي لم تصادرها بعد سلطة الاحتلال وتعلنها إسرائيلية بقوة الأسطورة التوراتية).
أهل بعض الضفة وغزة هم بمنطق شامير القادرون على مقايضة الأرض بالسلام، ولو نظرياً: يترك لهم شبراً هنا وفتراً هناك بشرط أن يتخلوا عن … الانتفاضة،
أما المنظمة فيخشى أن تكون قد حكمت على نفسها بالزوال حين ألغت دورها أو مهمتها أو واجبها المقدس في “تحرير” الأرض، وفي حماية وحدة الفلسطينيين جميعاً، في الداخل والخارج، بأي ثمنن، ومهما كان الثمن.
*** للمناسبة: خلت مقررات المجلس الوطني الفلسطيني الأخير في الجزائر من أي ذكر لحق العودة.
قاتل الله السهو!