حتى من قبل أن تقع محاولة اغتيال الرئيس الإيراني علي أكبر هاشمي رفسنجاني، فإن “المشهد الإسلامي” عشية الذكرى الخامسة عشرة للثورة الإسلامية في إيران، لم يكن مبهجاً، أو متسقاً مع ما كان مأمولاً ومنتظراً.
لكأنما انتقلت “آخر ثورة شعبية عظمى” في هذا القرن إلى مواقع الدفاع بعدما شكل تفجرها ذروة هجوم كاسح على الغرب الاستعماري – الإمبريالي – المهيمن على مقدرات الشعوب، لاسيما “الشرقية” منها، أي العربية – الإسلامية، وإجمالاً شعوب العالم الثالث.
إن “دار الإسلام” التي أقامها القائد التاريخي الفذ لحركة المستضعفين في الأرض، آية الله روح الله الموسوي الخميني على أنقاض “عرش الطاووس” في إيران الشاهنشاه، واقعة تحت الحصار الآن… ورصاص ذلك العدو الشرس والمبين للشعوب يطارد رئيسها حتى في المقام الضريح لقائد الثورة و”ولي العصر” والذي جاء ليعيد الوصل بين “الفقيه” الذي غاب وبين “المهدي المنتظر” الذي لما يأتي زمانه…
والآمال العراض التي استولدها الانتصار الباهر للفقراء المسحوقين في إيران على الشاه الذي كان قد تغرَّب حتى القطع الكامل مع الإسلام، تتراجع عائدة إلى مهاجع الأحلام، خصوصاً والأزمة الاقتصادية تشتهد فتهدد بتخريب ما تم إنجازه، أو بوقف النمو في تلك البلاد المترامية الأطراف والتي لم يعرف أهلها الرفاه إلا لماماً.
والأميركيون الذين حاولوا قهر الثورة بالحرب من الخارج، كما بالإنزال في الداخل، وبالتآمر مع أطراف محلية كما بتحريض دول الجوار، لا يخفون مسؤوليتهم عما تعانيه إيران الثورة اليوم، ويعترفون صراحة بأنهم سيتابعون الضغط عليها بحصار التجويع حتى تركع..
إن كل ذلك يدعو إلى التأمل، وإلى مراجعة التجربة، لتوضيح الحدود بين فشل محتمل للذات وبين نجاح غير مبرر للخصم…
في “المشهد الإسلامي” ، أيضاً، ما يستوقف وما يقلق، وما يحزن ويثير المواجع،
فمن البوسنة إلى أفغانستان، مروراً بتركيا “العلمانية” وإيران “الإسلامية”، يخيّم شبح الموت فوق المسلمين جميعاً، متطرفين ومعتدلين، حاكمين ومحكومين، “غربيين” و”شرقيين”، عرباً وغير عرب…
خصوصاً وإن شبح الموت ذاته يخيّم على الأرض العربية جميعاً في ما بين موريتانيا على المحيط الأطلسي، مروراً بالجزائر ومعظم أقطار المغرب العربي، ومصر والسودان (والصومال) وصولاً إلى اليمن “بشطريها” على البحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي.
والمسلمون (وضمنهم العرب) مهددّون ومحاصرون بنوعين من الموت: الموت “الغربي”، عبر الحصار الاقتصادي المضروب عليهم – ليبيا، العراق، السودان، إيران وأقطار أخرى – أو الموت بطرقة “شرعية” و”الذبح الحلال”!
وبقدر ما كان مبهجاً منظر تينك الرئيستين التركية والباكستانية وهما تخترقان بشجاعة الرجال الحصار الغربي لعاصمة البوسنة، سراييفو، فلقد كان السؤال الذي يفرض نفسه: إذا كان هؤلاء من رموز الإسلام “الغربي” لا يجدون أذناً صاغية من “أصدقائهم” الغربيين، ولا يلقون منهم الاحترام الكافي لوقف حرب الإبادة ضد مسلمي البوسنة والهرسك، فبماذا ستنفع الزيارة، وأين يمكن تثميرها خارج نطاق “الصرعة” الإعلامية؟!!
لا الخارج على إسلامه مقبول بما يكفي من الغرب.
ولا المتمسك بإسلامه مقبول، حتى لو كان مع اقتصاديات السوق وضد الاقتصاد الموجه وسائر أشكال الاشتراكية بحجة حماية حق الملكية، وهو مصان وفقاً للشرعية.
لكأنما “النوعان” من الإسلام مرفوضان.
لكأنما الإسلام بذاته هو المرفوض والموضوع خارج النقاش وليس عبر مسلك المسلمين!
وإذا ما شاء أحدنا الاستطراد ، وهو ممكن إلى ما لا نهاية، لاستوقفته وقائع وصور وأحداث يمكن تجميع دلالاتها في النقاط الآتية:
“المسلم” في عين الغرب اليوم، إما قاتل وإما مقتول، ولا صورة ثالثة له!
من قبل كانت تلك هي صورة “العربي” فقط، ولقد استمر التوكيد عليها من “الخارج” حتى كدنا نصدقها، ثم وجد في الداخل من يتصرف بموجبها وكأنها حقيقة نهائية حتى صارسهلاً أن يصدق “الخارج” نفسه وأن يعتمد تقديره (أو رغباته) حكماً مبرماً.
“المسلم”، ومن قبله ومعه الآن “العربي”، مشروع قاتل دائماً، وسواء أكان حاكماً أم محكوماً.
في هذا السياق تطمس تماماً صورة الفلسطيني المقاتل لحماية أرضه ووجوده فيها، أو صورة المقاوم في جنوب لبنان لتحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيلي.
بالمقابل تضخم وتجسم وتكبر صورة أي حادث يقع في الجزائر أو في مصر أو في إيران، وتطمس خلفيته السياسية – الاقتصادية – الاجتماعية.
في هذا السياق أيضاً لم نقرأ خبراً واحداً، وعلى امتداد سنوات، في وسائل الأعلام الغربي، عن إنجاز واحد حققته إيران، مثلاً، ولو على صعيد رفع مستوى المعيشة لملايين المعدمين الذين كانوا على حافة الموت جوعاً في زمن الشاه.
“المقاوم” من المسلمين والعرب “إرهابي”، إذا كان الأمر متصلاً بالغرب، و”قاتل”، إذا اتصل الأمر بنظام غربي، في ذلك البلد المسلم (أو العربي) أو ذاك.
أما المستكين والمستسلم لمشيئة “السيد” الأميركي، ومعه الإسرائيلي، فمغفورة جرائمه، كما في حالة تركيا مع الأكراد، أو في حالة ضحايا القمع السعودي على مر تاريخ طويل من القمع المرعب الذي كان يلوح بالإشارة إليه فقط كلما أريد ابتزاز مزيد من التنازلات من ذلك الحكم الغربي حتى العظم، ولو تلطى تحت علم يحمل الشهادتين.
“المشهد الإسلامي” يطرح مسائل خطيرة على المسلمين، وطليعتهم العرب، لكن أحداً لا يعطي أو لا يملك أن يعطي الاهتمام الكافي لتفاصيل ذلك المشهد المقلق.
وبين صورة “الإرهابي” و”المتخاذل” كادت تضيع فلسطين، وطمس ذكرالقدس ربما لينال المفاوض الفلسطيني صك البراءة من تهمة الإرهاب والتطرف والتشدد، فكاد يخرج من إسلامه من غير أن ينالها.
وبين صورة “مشروع القاتل” و”مشروع القتيل” لم تتم فقط إدانة هذا النظام أو ذاك، أو مجموع الأنظمة القائمة فوق الأرض العربية (والإسلامية)، بل تمت إدانة عموم المواطنين في تلك الأقطارجميعاً، لا فرق بين حاكم منهم ومحكوم.
فالأصولي في مصر “إرهابي” في نظر الغرب، لكن النظام المصري “ضعيف وغير مستقر ولا يوثق به”، كما يصفه إسحق رابين.
لكأن الكل مرفوض.
ولكأنها حرب على الجميع وليس على نمط معيّن من التفكير أو من السياسة أو من الممارسة.
فهاشمي رفسنجاني مرفوض، وحسني مبارك غير مقبول، وصدام حسين مقبول تحت لافتة الرفض في حين أن نظاماً “أصولياً” بالمطلق – من حيث المبدأ والشعار والمطاوعة – كالنظام السعودي “مرفوض” نظرياً لكنه محصن ومحمي بكل الأساطيل الأميركية، لأن النفط يجب الخطايا جميعاً، وفي طليعتها الإسلام!
وعلى المسلمين أن يحددوا المقبول والمرفوض طالما يتصل الأمر بدينهم، وكذلك العرب متى اتصل الأمر بأرضهم وبمستقبلهم فوقها.
لكن “المشهد الإسلامي” لا يقدم ما يفيد بأن ثمة من هو مستعد لمثل هذه المهمة “الفدائية”، والتي قد تكون ذروة “التطرف” وذروة “الإرهاب” معاً!