يبدو إصرار الرئيسين حافظ الأسد وحسني مبارك على تجاوز الواقع السياسي العربي، بكل أثقاله، وكأنه محاولة لاختراق سقف العجز ضمن ظروف تكاد تكون قاتلة ببؤسها وانعدام النصير فيها.
لكأنه تحد للمستحيلن ولو اندرج في خانة الواقعية السياسية التي اشتهر عن كليهما إدمان الالتفاف على منطقها المحبط ومحاولة كسر طوقها على مهل وببطء شديد جداً.
لا أوهام لدى الرجلين في إمكان اصطناع المعجزات، لكنهما يحاولان مستندين إلى إحساس مكين بحاجة كل قطر إلى الآخر موضوعياً ولأسباب مصلحية قبل أن تكون مبدئية أو عاطفية يختزنها وجدان النضال المشترك عبر التاريخ.
ولا أوهام لدى المواطن العربي العادي، سواء، في مصر أم في سوريا أم في أي قطر عربي آخر… لكن اللقاء المصري – السوري يحظى باهتمام استثنائي ويستولد آمالاً عراضاص (مبهمة) في إمكان إنجاز شيء ما غدا أو بعد غد.
غارت كامب ديفيد إلى قعر الذاكرة، واحتلت الإرادة وقدرتها على الفعل، برغم المصاعب أو ربما بسببها، واجهة التفكير والتمني: ولا بد أن ينتج عنها ما هو في خيرنا!.. أما كيف ومتى وأين فأسئلة متروكة للأيام.
لكن التحفظ واجب، وأبرز موجباته أن يتوهم النظام المصري إن عودة العرب إلى مصر وكأنها موافقة متأخرة على إنجاز متقدم حققه أنور السادات وأورثه لخليفته حسني مبارك.
مثل هذا التوهم خطأ سياسي قاتل،
فوحدهم أعداء مصر وأعداء حسني مبارك يريدون له أن يكون مجرد امتداد باهت لسلفه، ليس له تجرؤه على الحق والحقيقة، وليست له “شجاعته” في اقتراف الاثم، كما ليست لقه القدرة أو الشجاعة على التبرؤ مما لم يكن له رأي فيه (وما كان ليسمع له رأي لو أدلى به على أي حال)..
إن عودة العرب إلى مصر تقوي مصر إن كانت تطلب القوة في وجه عدوها… وهي تقوي نظامها إن كان يرغب في أن يكون بحجم مصر وبحجم أمنها، وليس مجرد منفذ لسياسة بائدة ثبت إنها لا تحقق إلا مصالح أعداء مصر وأعداء الأمة، برغم كل التزويق والتلميع وأوهام الثراء والازدهار بدولارات الصلح المنفرد.
إن كثيرين يأخذون على الرئيس مبارك تردده وترك الأمور للزمن… وأكثر منهم يحاولون الآن تزوير الحقيقة عليه فيوهمونه إن العرب إنما رجعوا إلى السادات فيه وليس إلى ابن ثورة 23 يوليو وقائد سلاح الجو في حرب أكتوبر المجيدة الذي قاتل إسرائيل (جنباً إلى جنب مع أخوته السوريين) لحماية وطنه وأمته.
بالمقابل فقد يكون من حق الرئيس السوري حافظ الأسد أن ينظر إلى زيارته لمصر وكأنها إعلان شرعي بوفاة أنور السادات وسياسته التي غدرت بسوريا، رفيق السلاح وشريك المصير، في زمن الحرب.
وقد يتخوف الرئيس المصري حسني مبارك، من اتهامه بالجحود والتنكر لمن اصطفاه فاستخلفه، مفضلاً ترك الأمور بغير تحديد، وإحالة أمر الماضي كله على محكمة التاريخ،
ولكن من للحاضر؟ من يتحمل المسؤولية عنه وعن المستقبل؟
ثم، ألم يكن الغدر غدراً بمصر وجيشها وحق شعبها في حياة حرة كريمة، قبل أن يكون غدراً بسوريا وجيشها وارضها وحق شعبها في غد أفضل دفع ثمنه من دمه ومن هناءة عيشه جيلاً بعد جيل؟!
لا بأس، لنترك كل شيء للتاريخ،
ولكن إعلان نهاية عصر أنور السادات، بكل ما كان فيه وما نجم عنه، شرط لاعلان بداية عهد مبارك.
والناس يعرفون إن حسني مبارك ليس جمال عبد الناصر ولن يكون،
لكنهم يعرفون أيضاً إن جمال عبد الناصر قد مات قبل الأوان، من أجل مصر والعرب، في حين إن أنور السادات قد سقط رمياً بالرصاص بأيدي شبان يريدون العزة لمصر والعرب والمسلمين حتى وإن هم أخطأوا في الأسلوب.. ربما لأنهم لم يجدوا أمامهم أسلوباً أآكثر ديموقراطية.
في أي حال فإن رحلة الرئيسين “السياحية” إلى شرم الشيخ قد تكون في مستوى مباحثاتهما السياسية من حيث الأهمية والتأثير النفسي.
وبقدر ما يحق للرئيس حسني مبارك أن يطلق فرحته “باستعادة” سيناء سلماً بأفضال الصلح المنفرد، فإنه لن يستطيع التخلص من غصة الحزن – وكذلك مضيفه – والواقع الجغرافي أمامهما يدحض كل أراجيف السياسة الواقعية.
من شرم الشيخ تبدو صورة العجز العربي مجسمة إلى حد الاهانة الممضة…
فخليج العقبة الممتد كنفق طويل بين الشاطئ الأفريقي للبحر الأحمر والشاطئ الآسيوي انتهاء بأم الرشراش على ساحل فلسطين هو خليج عربي مائة في المائة من حيث المبدأ، لكنه بقوة الأمر الواقع نقطة تحكم إسرائيلي بالإرادة العربية.
إن الضفتين عربيتان: أحداهما مصرية والثانية سعودية، وأقصى عمقه عربي، أردني، إلا نقطة منه تطل منها رأس الحربة الإسرائيلية… وخليج العقبة ذاته تتقاسمه إسرائيل والمملكة الأردنية الهاشمية وسط صمت الموت بالاستسلام الذي تبثه الضفتان السعودية والمصرية.
وقبل أن تأخذك روعة المشهد براً وبحراً، خصوصاً وإن الشاطئ هو الأغنى في العالم بالشعب المرجانية وأصناف السمك النادر في أشكاله وألوانه المزركشة كما قوس قزح، ينغرز في عينيك كمخرز ذلك العلم ذو المثلثين المتقاطعين والذي تربيت على اعتباره من بيارق القراصنة… وتمرق السفينة إلى الشاطئ المحتل برحاسة صمت العجز والموت المهيمن على الضفتين العربيتين، بفضل الصلح المنفردز
وسيناء كلها تغرق في مثل هذا الصمت،
لا ينطق فيها إلا آثار المواجهة التي لم تتم أبداً في الظروف الصحيحة وبالقيادة الصحيحة ومن أجل الأهداف الصحيحة.
ولقد أعيدت سيناء إلى مصر، ولكن عودة الروح إلى مصر عليها أن تنتظر بعد المزيد من العرب… والعروبة.
الأخضر ومهمته: ماذا بعد العرض؟1
مرحباً بك، سي الأخضر، مرة أخرى في ديارك،
أنت “الموعد”، يا سي الأخضر، الموعد مع الوعد والموعود، فعساك، توفق هذه المرة كما وفقت في الماضي في التخفيف من آلام اللبنانيين والعرب (وأصدقائهم؟!) في لنبان الجريح!
لكن الناس، ومن طبعهم الإلحاح، يستعجلون أن يعرفوا هذه المرة، طبيعة المهمة التي جاء من أجلها الأخضر الإبراهيمي والتي يترقبها الجميع بحذر بالغ وكأنهم أمام محاولة لتفكيك قنبلة موقوتة.
السبب المعلن هو : تبليغ برنامج مجلس الوزراء لتحقيق الوفاق الوطني، والذي أقره في جلسته الأخيرة، لمختلف الأطراف، وبالتحديد لرافضي اتفاق الطائف أو المعترضين أو المتحفظين عليه والمطالبين بتعديله كصيغة هادئة لقتله من دون ألم.
وبما إن البرنامج وضع بالتنسيق مع اللجنة العربية الثلاثية، وبتوجيه منها، وعدلت نصوصه أكثر من مرة في ضوء اتصالاتها الدولية، ثم أخيراً بالتوافق مع دمشق، فمن المنطقي أن يكون الأخضر الإبراهيمي هو “المبلغ” وممتص صدمات الردود.
والسؤال الأول الذي يطرحه الناس على أنفسهم بغير جواب: هل يقف الأخضر الإبراهيمي بباب “الضابط المتمرد” ميشال عون وسيطاً أم مسوقاً إن سائلاً أم مبلغاً؟!
بصيغة أخرى: هل سيحاول إقناعه أو إغراءه، أم إنه سيبتدع ما يحفظ به ماء وجهه ويوفر له المخرج الكريم، ثم يرتب معه أسباب تسليمه “السلطة” التي “وقعت” بين يديه ذات ليل “جميلي” طويل؟!
في حال الرد الايجابي، إذا كان مضموناً، لا مشكلة… فالشرعية تتسع للجميع، وفيها من الأشرار والقتلة والسفاكين ما يجعلها قادرة على الترحيب بعودة هذا الابن الضال أيضاً.
فهي مولودة زمن الحرب، أولاً وأخيراً.
أما في حال استمر ميشال عون على موقفه، أي ضابطاً. متمرداً على الشرعية واتفاق الطائف وأهله، فماذا سيكون رد الأخضر الإبراهيمي ومن خلفه، من اللجنة العربية العليا إلى الشرعية مروراً بعواصم القرار مع محطة فاصلة في دمشق؟!
إن اللجنة العربية الثلاثية ليست ضعيفة ولا يفترض أن تكون، بحيث تجيء فتعرض فإن قبلت مبادرتها شكرت وإن رفضت اعتذرت (لميشال عون وسمير جعجع ومن بعدهما حزب الله وحركة التوحيد ومن قال قولهما) وانسحبت بحياء من ارتكب خطأ في التقدير أو سمح لتعينه بأن تبصبص على زوجة جاره وهي بقميص النوم!
واللجنة العربية بغنى عن كشف ضعفها، وإن كانت ضعيفة، بالوقوف بباب ميشال عون راجية السماح لها بإنقاذه من مصيره المحتوم،
كذلك فإن العالم، على هزاله، لا يحتاج بعد إلى اعتراف ميشال عون به… ذلك إن الرفض (وهو متوقع) سيعني – مرة أخرى – إن عون منفرداً أقوى من العالم مجتمعاً!!
إن اللبنانيين يرحبون بالأخضر الإبراهيمي وباللجنة العربية الثلاثية لأنهم يريدون الحل، يحلمون بالسلام ومستعدون لدفع ثمنه تساهلاً في المحاسبة والمؤاخذة وطياً لصفحة لاماضي بكل ما حفلت به من رزايا.
ولكن الرد على الرفض يجب أن يكون جاهزاً ورادعاً فعلاً،
والرد يجب أن يتجاوز بطبيعة الحال ميشال عون، إلى من يسانده ويدعمه في الداخل والخارج،
وأول المطالبين بموقف صريح وقاطع هم رموز المارونية السياسية كمؤسسة في لبنان، ومراجع المسيحية في العالم،
فهذه المؤسسة العاتية تتصرف وكأنها تصرعلى إبادة المسيحيين قبل أن تندثر تماماً.
لقد ألحق رموزها الأفذاذ بالمسيحيين (قبل المسلمين) أفدح الضرر، وقدموا الدليل على إن هذه الفئة ليست مؤهلة للحكم ولا تؤتمن على بلد، ولا هي تؤتمن حتى على طائفتها. وبمراجعة بسيطة يتبين إن الذين هجروا أو هاجروا (أو قتلوا) من المسيحيين على أيدي رموز المارونية السياسية أكثر بما لا يقاس ممن هجرهم “الخصوم”،
كذلك فلقد قتلت المارونية السياسية الشرعية، أكثر من مرة وأضعفت الرئاسة وأسقطت حق المسيحي (والماروني تحديداً بها) بسبب من نقص أهلية وانعدام جدارة من تولوها.
وذلك الحشد في السفارة الفرنسية لمناسبة احتفالها يوم السبت الماضي كان الشاهد الحي على إن ما مضى قد مضى ولن يعود.
فعسى أن يعرف الأخضر، لعله “يحسن” في عرضه لميشال عون بحيث يكون “عرضاً لا يمكن رفضه”..
ومرة أخرى، أهلاً سي الأخضر في ديارك وفي موعدك تماماً!
عمر أبي ريشة:
أخذوا زمانهم ومضوا!
رحل عمر أبي ريشة بصمت وقور يكاد يعوض الجلال الذي يفترض أن يحيط بمناسبة حزينة من نوع غياب صوت مغرد ومتميز كالشاعر الكبير الراحل.
وبين ما يستوقف في لحظة كهذه أن يرحل مبدع كعمر أبي ريشة وسط “غربة” بائسة عن الأجيال التي كان من البديهي أن تتلمذ على يديه في ظروف طبيعية ولكنها – ولأسباب خارجة عن إرادتها – لم تعرفه في تألقه ولا تذكر عنه إلا اسمه وبضعة سطور عن حياته الشخصية.
لكأنه ورفاقه من جيل الشعراء الكبار كالأخطل الصغير وأمين نخله وبدوي الجبل وغيرهم ممن أخذوا عن جيل الرواد كأحمد شوقي وحافظ إبراهيم والمطران (ومن دون أن ننسى الجواهري، مد الله في عمره)… لكأنه ورفاقه قد أخذوا زمانهم معهم، فلم يتركوا للزمن الحاضر الاسم والعنوان، احتجاجاً (؟) على جهل أجياله وتدني منزلة الشعر في الثقافة ومنزلة الثقافة في الحياة العامة وفتور الصلة بين الماضي والحاضر الذي لم يعد مسلماً به كجسر إلى المستقبل… إلى الغد الأفضل.
لكأنه مقدرب على أجيالنا الحاضرة والآتية أن تعيش بلا موسيقى، وربما بلا وجدان: فلا أم كلثوم، ولا محمد عبد الوهاب، لا أسمهان ولا ليلى مراد، لا سيد درويش ولا السنباطي، لا محمد القصبجي ولا الشيخ زكريا أحمد:… ثم إنه لا شعراء كباراً أيضاً!
حتى تلامذة عمر أبي ريشة ورفاقه يدخلون إلى دنيا الصمت أو يتوهمون في دهاليز التغرب والضياع والابتعاد عن الأرض والإنسان واللغة ويفترقون في معارك العصرية شيعاً.
ولولا بقية باقية من أحمد عبد المعطي حجازي وأدونيس وفودى طوقان وبعض إشعاعات محمود درويش وذكريات البياتي وأصداء صوت الراحلين صلاح عبد الصبور وأمل دنقل وفورات مظفر النواب، لكنا بلا شعر أو شعراء.
طبعاً هناك جيل جديد من الشعراء في مختلف ديار العرب، وفي لبنان وجنوبه بالذات كما في فلسطين، ولكن الفجوة بينهم وبين سابقيه أعمق من أن تغطى بالذكريات الباهتة أو بالمجاملات الباهتة.
وعمر أبي ريشة، مثله مثل أقرانه ورفاق جيله، تجاوز الشاعر إلى مرتبة الداعية والمبشر والمحرض السياسي إلى حد إنه كاد يحتسب في عداد الزعماء والقادرة ولو من باب التأثير السياسي.
ولقد رفعته الموهبة، المصقولة جيداً بالثقافة والتجربة الحسية، عمرأبي ريشة وأترابه فوق الزعماء صيتاً وذكراً وشعبية وإن أبقاهم توغلهم في الخلافات السياسية اليومية تحت الأنبياء والرسل أصحاب القضية.
ومأساوية هي المسافة الفاصلة بين البداية والنهاية،
فهؤلاء الذين جعلوا الزمان زمانهم، من خلال إبداعهم وصدقهم في التعبير عن طموحات شعبهم. انتهوا غرباء عن الزمان والبلاد والجمهور والمهجن والذي بين أسباب ضياعه اغتراب شعرائه عنه، مرة بحجة التجديد ومجاراة العصر والحداثة، ومرة بذريعة فقر اللغة، وثالثة بسبب من “صراعهم” مع النظام القائم والذي رماهم في أحضان أنظمة أسوأ. ودائماً بسبب من العلاقة الشوهاء بالسلطة… سلطة الداخل وسلطة الخارج.
ولكي تكتمل دائرة الحزن الوجودي اسأل أبناءك: من منكم يعرف بيتاً واحداً (وليس قصيدة) من شعر عمر أبي ريشة.