نقولها بصراحة وبوضوح وبصوت كل أولئك الذين بحت أصواتهم ولا من يسمع، أو الذين أجبرهم الخوف على حبس رأيهم الصريح، أو الذين استنكفوا فغادرونا إلى البعيد حتى “لا عين ترى ولا قلب يوجع”، وحتى لا يموت واحدهم بالخطأ وهو لما يقل ما يجب أن يقال،
نقولها ببساطة، ووسط دوي المدافع المؤكدة لتحالف المتحالفين.. علينا:
لم نعد مستعدين لقبول أي تبرير لما حدث ويحدث في بيروت ولها وللناس الذين بقوا وسيبقون فيها،
فلا ما يقوله نبيه بري، عبر الأثير وعبر الهاتف وتردده بعده أجهزة الأعلام في حركة “أمل” يمكنه أن يقنع أحداً ممن لم يلحقه بعد ضرر، فكيف بالمتضررين أو الضحايا؟!
ولا هي مقنعة النتعات التي يفجرها وليد جنبلاط، كالقنابل الموقوتة بين حين وآخر، والتي ما تكاد تهم من مناقشة أولاها حتى تداهمك الثانية عن يمينك وتباغتك الثالثة عن يسارك فتضيع بينها وبين ما تقدر إنه سيجيء بعدها من الخلف أو من الأمام، فتفضل الانتظار حتى يزول الشك ويستقر اليقين، وما أبعد اليقين؟
وليس مطمئناً ذلك المنطق المبدئي المتزمت الذي يعالج به “حزب الله” أحداثاً وتقلبات سياسية متسارعة تتقافز جميعها فوق سطح من الصفيح الساخن قبل أن تغور في بحر الرمال المتحركة التي تتشكل منها “الساحة” في لبنان،
وبالمقابل كان مستهجناً، في وقت مضى، غياب الأحزاب العلمانية كالشيوعي والقومي السوري والناصريين، ولكن “حضورها” مؤخراً زاد من الاستهجان بدل أن يلغيه، فلقد دخل كل منها من الباب الخطأ فأسهم في تفاقم “الوضع” إذ أضاف مشكلته إلى قائمة الجراح المفتوحة القديمة، ولا من يداوي أو يوقف النزف القاتل،
وحمدا لله، الذي لا يحمد على مكروه سواه، إن الحزب السوري القومي الاجتماعي قد تمكن – بعد جهد – من حصر مضاعفات أزمته الداخلية في نطاق الاختلاف السياسي وجنبنا مزيداً من الويلات بين رفاق السلاح في الحزب الواحد.
وحمداً لله، أيضاً، إن التنظيم الشعبي الناصري قد استدرك الخطأ فمنع “المورطين” من إساءة استخدام اسمه وعناصره، وعض على جرحه فامتنع عن الرد على ما قيل فيه، بغض النظر عن مدى الدقة أو مدى التجني.
أما الحزب الشيوعي فقد انتظرنا أن يجيئنا من باب السياسة، كما وعدنا مؤتمره الخامس فإذا به يجيء من باب الاشتباك الواسع بسبب شقة ضيقة في زاروب مسدود!
نقولها ببساطة:
لا شيء يبرر هذه الجرائم الخطيرة التي ترتكب جهاراً نهاراً ضد الوطن والمواطنين، بلا سبب مقنع، بلا موضوع، وبانفصال كلي عن هموم الناس، بل هي ترتكب بحقهم وتلتهم أعمارهم أملاكهم وأرزاقهم وتصير هي هي مصدر الهم الأكبر، وتصير القيادات التاريخية الفذة هي وحدها المسؤولة عن كل ما تقدم من جرائم وما تأخر.
إلا إذا أريد لنا أن نلغي ما تبقى من عقولنا فنصدق إن الحلف المعمد بالدم يمكن أن ينهار فعلاً، ويمكن أن تلتهب بيروت وناسها بنيران الأخوة – الأعداء لأن واحداً منهم “لطش” فتاة حسناء كان الآخر يريدها لنفسه.
ونقولها ببساطة:
إن هذه الكوارث التي تعرض ويتعرض لها الناس في بيروت تكشف إلى أي حد مفجع اتسعت رقعة الخلاف السياسي بين “أطراف الصف الوطني الواحد”، وإلى أي حد قاتل تسمم جو العلاقات في ما بينهم بحيث تكفي “نظرة شزر” من أي عابر سبيل لجعلهم يقتتلون كما لم يقاتل أي منهم أعدى أعدائه في أي يوم.
ونقولها ببساطة:
إن أحداً لم يعد يطمح أو يتصور أن يقوده هؤلاء إلى انتصار على الخصوم من معارضي الاصلاح والتغيير والتطوير ولو بحده الأدنى،
ولم يعد أحد ينظر إلى هؤلاء بوصفهم القيادة المؤهلة لصياغة مشروع وطني يكون قاعدة الحل الوطني العتيد للمسألة اللبنانية،
إن أقصى طموح الناس، اليوم، أن يتوصل هؤلاء إلى هدنة في ما بينهم تفتح الباب لجهد حثيث يبذل من أجل تمكينهم من الجلوس إلى طاولة مفاوضات نتهي بقدر من الوفاق السياسي،
فمن المستحيل، مع حالة التعبئة الشاملة، التي يعيشها كل تنظيم على حدة، وبعض التنظيمات ضد البعض الآخر، أن نتصور إمكان قيام حوار صحي يمهد لتوافق على مشروع مشترك من أي نوع، فكيف بالمشروع الوطني المرتجى المجسد لأحلام الكادحين والمحرومين والمستضعفين في الأرض؟!
بصراحة أكثر:
إن ثمة خللاً فادحاً في العلاقات بين حركة “أمل” وبين معظم التنظيمات الفاعلة أو “المتواجدة” على الأرض، وهو خلل قديم لكنه لم يلق العناية الكافية فتحول إلى نوع من الغرغرينا تتفجر أمراضاً وأوبئة مهلكة بين الحين والآخر.
في “الحركة” يرون إن الكل يتلاقى عليهم ويعمل على تحجيم “أمل” وضرب مواقع سيطرتها وإنجازاتها ودورها السياسي الكبير ومن هنا فهم متحفزون أبداً متوجسون شراً مرتابون بالجميع،
و”حلفاء” الحركة يقولون فيها ما يقول مالك في الخمر: فالبعض يتهمها بسرقة انتفاضة 6 شباط، والبعض الآخر يتهمها بممارسة هيمنة فئوية لم يمارس مثلها بشير الجميل في حياته ولا أمين الجميل من موقع رئاساته الثلاث : الجمهورية وحزب الكتائب و”القوات”،
ومثل هذا الخلل السياسي الفاضح يعبر عن نفسه بالاشتباك الأمني عند أول اختلاف على أفضلية المرور أو أفضلية “التلطيش” أو أفضلية الاستيلاء على عمارة أو شقة أو سيارة يملكها مواطن أعزل من بطاقة عضوية في الحزب أو في الحركة.
ونقولها ببساطة:
لا يمكن لأي عاقل أن يقبل الادعاء بأن هذه الاشتباكات التي تنبت بغزارة كالفطر وتتسع رقعتها وتتزايد خطورتها، بين ساعة وأخرى إنما تقع نتيجة لاشكالات عارضة، أو لخلافات بين عناصر منضبطة أو قليلة الانضباط، أو هي متمردة على قيادتها “فاتحة على حسابها”.
إنها، في نظر الناس وفي السياق العام للأحداث التي نعيش تجيء في لحظة محددة وموصوفة، مما يعطيها أبعاداً تنذر بمزيد من الويلات.
وبصراحة أكثر:
لماذا تفجر هذا التعارض في المواقف السياسية الآن وليس إلا الآن.
وهل ثمة ما يقنع بانفصال هذا الذي يحدث في بيروت عما يعد للبنان كله وللمنطقة برمتها؟!
فالأسطول الأميركي السادس يحتشد في البحر الأبيض المتوسط، غير بعيد عن مرمى مدفعية المشتبكين في بيروت، كما لم يحتشد في أي يوم من قبل، وسط تهديدات علنية وقحة ومباشرة لم يسق أن سمعناها من مسؤول من مستوى جورج شولتس توجه إلى أعدى أعداء العصر الأميركي في أي مكان أو زمان.
والمسؤولون الإسرائيليون “ينصحوننا” بأن نأخذ التهديدات الأميركية على محمل الجد، وللتوكيد يبعثون بطائرات استطلاعهم أمام طائرات الأسطول الأميركي لتمكنها من تصوير لبنان كله، مع تركيز على بيروت بالذات، تمهيداً “لأمر ما” أشارإليه شولتس علناً.
وحصار بيروت الذي أمر به وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية تكاملت حلقاته تماماً، فتم الحجر على أهلها المصابين بالطاعون، وبدأت معالجتهم بنيران بنادق حماتهم المحليين!!
وإذا كانت “القوات اللبنانية” قد باشرت تنفيذ “أمر العمليات” الذي أصدره شولتس بإقفال مطار بيروت ووضع شركة الطيران الوطنية على كف عفريت، فإن خصوم “القوات” يكملون موضوعياً وعبر اشتباكاتهم المتواصلة ما لم تقدر هي عليه، ومن ذلك:
*تهديد المصرف المركزي بالقصف ربما بقصد تعطيل دوره في حماية النقد الوطني ووحدته، بذريعة تعاظم الكارثة الاقتصادية بارتفاع سعر صرف الدولار بالليرة اللبنانية.
*توالي عمليات الخطف، يستوي في ذلك الخطف المستهدف الابتزاز والمطالبة بفدية، أو الخطف الآخر لاموجه ضد بعض الرموز الوطنية كالذي جرى لجان عبيد قبل أيام.
*استمرار التعدي على الجامعات والمعاهد والمدارس والمستشفيات مع تضاؤل القدرة على وضع حد لهذه التعديات وانعدام القدرة على المحاسبة والردع.
*تواصل الاستفزازات والاعتداءات ضد من تبقى من رجال السلك الدبلوماسي العربي والأجنبي والرعايا الأجانب في بيروت.
وأخيراً وليس آخراً ظهور أنواع جديدة من القمع ترافق الاجتماعات وتعطيها بعداً مدمراً، وهو قمع يتوجه الآن إلى الايديولوجيات والعقائد السياسية، فالبيوت تداهم بحثاً عن الحزبيين وليس بحثاً عن السلاح أو عن الرزق الوفير، وإن هي شملت ما خف حمله وغلا ثمنه.
هذا دون أن تنسى الجرح المفتوح في المخيمات ومن حولها بكل التداعيات المنطقية والنتائج المريعة المترتبة على استمرارها من دون حل جدي ومقبول بالمعنى الوطني وبالمعنى القومي إضافة إلى المعنى الإنساني…
إلى اين يقودنا هذا التسلسل المنطقي والعياد بالله؟!
لكأنما يساهم الجميع، بقصد أو بغير قصد عن وعي أو عن قلة وعي أو عن انعدام وعي، في تنفيذ أمر العمليات الصادر عن جورج شولتس.
لكأنما صار حزب “الشولتسيين” هو صاحب القدرة والقوة ومركز القرار في بيروت، بيروت التاريخ الوطني، بيروت منارة العروبة وشارعها ومنتداها ومطبعتها وصحيفتها وقهوة الصباح البكر.
لكأننا جميعاً أدوات في تنفيذ هذه المؤامرة المعلنة أهدافها القاتلة.
هذا بينما رئيسنا يصول ويجول بين قصور الأسر الحاكمة في بلجيكا وبريطانيا وفرنسا “الاشتراكية”، ماداً يده مطلباً للصدقات والحسنات وما تجود به نفوس النبلاء لإنقاذ “العائلات المستورة” في لبنان.
وبين الهموم المعلنة لرئيس الجمهورية مصير الرهائن الأجانب المحتجزين في بعض أنحاء لبنان وآخرهم تيري ويت وأساتذة كلية بيروت الجامعية.
ومع تعاطفنا غير المحدود مع هؤلاء الرهائن والذين سبقوهم، فإننا أولى بعطف الجميع، ولاسيما رئيس الجمهورية اللبنانيةن منهم.
فنحن رهائن أيضاً.
رهائنه ورهائن نهجه المسؤول إلى حد كبير عما نحن فيه الآن.
فهو المسؤول الأول عن هذه الجرائم جميعاً، بما فيها تلك التي يرتكبها خصومه الذين بدأوا بتقليده ثم كادوا يفوقونه ويتفوقون عليه.
ونحن أخيراً رهائن شولتس وطاعونه وطائراته ومعها الطائرات الإسرائيلية التي تجبرنا على طأطأة رؤوسنا.
مع هذا كله لن نيأس.
وسنظل ننظر إلى دمشق ننتظر منها أن تبادر إلى إنقاذنا، من خطايا خصومنا كما من أخطاء قيادات صفنا الوطني.
والصورة عند دمشق واضحة كل الوضوح.
ولعل المدخل إلى الوفاق السياسي الوطني المنشود يكون بلقاء فيها تستدعي إليه الجميع وتضعهم أمام مسؤولياتهم ولا تتركهم يغادرونها حتى يعلنوا فك اشتباك بينهم على قاعدة مشروع وطني للحل السياسي المنشود.
وسنظل ننتظر القرار والمبادرة الشجاعة والمسؤولة ومن دمشق وليس إلا منها.
وما نرجوه ألا تجيء هذه المبادرة المنقذة بعد فوات الأوان.