طلال سلمان

على الطريق صراع بالدولة على سطح… الطائفة

بعد يوم واحد من دخول بيل كلينتون البيت الأبيض كانت إدارته الجديدة قد اكتملت من الوزير إلى السفير إلى المدير انتهاء بالخفير…
خرج آلاف من كبار الموظفين، في مختلف قطاعات الإنتاج والإدارة، ودخل آلاف غيرهم إعلاناً عن انتهاء عهد وبدء عهد جديد مختلف بشعاراته كما بأشخاصه، بأولوياته كما بالمهمات الموكلة إلى “رجال الرئيس”.
وصحيح أن ثمة صراعاً بين الحزبين”الحاكمين” الجمهوري والديموقراطي، إلا أن مصالح أميركا تظل خارج دائرة هذا الصراع فلا يبدل تبديل الأشخاص شيئاً في “الواجب الوطني” المسلم به: حماية المصالح الأميركية في أربع رياح الأرض.
أما في لبنان، بنظامه الفريد في بابه، برغم أنه “ينتسب” إلى دوحة الأنظمة الجمهورية الديموقراطية البرلمانية، ولو في الشكل، فإن “انتخاب” رئيس للدولة يبدو أسهل من تعيين مدير عام لهذه الوزارة أو تلك!
بعد ثلاث سنوات (ونيف) من قيام “الجمهورية الثانية”، كما يسمونها مجازاً، أو “عهد الياس الهراوي” كما يحب أهله أن يسموه، وبعد ثلاث حكومات (والرابعة هي الآن في دست الحكم)، وبعد سلسلة من الحروب متعددة الأسماء والضحايا، تعذر – حتى الساعة – ملء الشواغر في الإدارات الحكومية والمصالح المستقلة والمؤسسات العامة،
تقاعد الأصلاء أو توفاهم الله، ورقي الأعلى رتبة فجعل “وكيلاً” حتى تقاعد، فعهد بالمنصب إلى التالي في الرتبة بالتكليف، وهكذا انتهت الإدارة لأن تكون في عهدة الأدنى رتبة والأقل كفاءة والأتعس حظاً لأنهم غير مسنودين!
وفي غياب أي عامل سياسي، وطغيان ما هو طائفي ومذهبي، فقد وصل إلى القمة، بالتحايل أو لتعذر البديل، الأكثر ارتباطاً وتبعية للقيادات المذهبية والطائفية…
وهكذا حل المذهب محل مجلس الخدمة المدنية وحلت الطائفية محل التفتيش المركزي، وحلت المرجعيات الروحية محل ديوان المحاسبة، وأصاب اليتم ذلك النفر من الأكفاء الذين كانوا يرون الوظيفة خدمة عامة قد تصل إلى مستوى “خدمة العلم”.
قيل: تركة الحرب وسنيها الطويلة، ومآثر ميليشياتها وقوى التسلط من خارج الشرعية وغالباً باسمها،
وانتظر الناس الشرعية وقرارتها،
لكن الشرعية عجزت عن حل هذه المعضلة المتفجرة.
فبقدر مام كان سهلاً تعيين الوزراء وإعادة تعيينهم، أو استبدالهم بمن “يعادلهم” في الوزن (؟) والتوجه، فإن تعيين المديرين العامين ورؤساء مجالس الإدارة يكاد يوازي قراراً بإعلان حرب جديدة… وهذه المرة في قمة السلطة!
جاءت حكومة “العهد الأولي” وذهبت ولم “تنجز” إلا تعيين سفير في باريس، بعد رحلات وشفاعات وضمانات شفهية وخطية أكلت الكثير من رصيد الرئيس الجديد،
وجاءت الحكومة الثانية فكان أعظم إنجاز لها الاتفاق على “السلة”: أي إجراء التعيينات والتشكيلات دفعة واحدة، وبما يحقق التوازن على المستويين السياسي والطائفي (وداخل الطائفي المذهبي) ثم رحلت هي الأخرى و”سلتها” فارغة إلا من دخان الإطارات المحروقة بنار “المؤامرة” في السادس من أيار الماضي.
أما الحكومة الثالثة فلم تكن معنية إلا بالانتخابات، وقد أجرتها بنجاح باهر نالت عليه تقدير اللجنة الفاحصة…
وها هي الحكومة الرابعة تواجه التحدي فتستولد مجموعات من التحديات التي يمكن أن تهدد “الجمهورية الثانية” بخطر جدي!
لقد تبدلت التوازنات واختلت المعادلات، وانتقل حق النقض (الفيتو) من جهة إلى جهة أخرى، فصار الاحتكاك يومياً ودائماً في غياب “إطفائية” حاضرة ومبادرة بالتحرك قبل ارتفاع ألسنة النار.
بصيغة أوضح: كان “توازن القوة” في السابق، بين رئيس الجمهورية من جهة ورئيس الحكومة والوزراء من جهة أخرى، يشل الجميع وينقل مركز التحكم إلى رئيس المجلس النيابي، فيتعذر التعيين في الإدارة إلا على من يحظى بالإجماع، والإجماع في لبنان يأتي رابعاً بعد الغول والعنقاء والخل الوفي،
أما اليوم فإن افتقاد التوازن يكاد يوصل إلى ما هو أخطر من الشلل وأدهى: الإحراج فالإخراج أو التهديد بالخروج على طريقة “إذا مت عطشاناً فلا نزل القطر”!!
وقبل عام ونيف، ثم قبل الحكومة الأخيرة، كان رئيس الجمهورية هو وحده الذي يهدد بالاستقالة “وليكن ما يكون، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها”!
أما اليوم فإن نغمة التهديد بالخروج بدأت تتردد على لسان رئيس الحكومة أيضاً، إذا لم يكن له ما يريد!
واحد يقول: إذا فعلتموها دوروا على غيري، فلقد تحملت أكثر مما تحمل الأنبياء والصديقون،
والثاني يقول: إذا لم توافقوا على ما أطلبه ولم تطلقوا أيدي حرة بلا قيد فلسوف “أفل” –أي أخرج – لأن آمال الناس معلقة علي وأنا غير مستعد لأن أخذل الناس في آمالها.
صار للرئيس الثالث حق القرار، أما الأول فبالكاد له حق الفيتو، وأما الرئيس الثاني فيحاول أن يحمي المؤسسة – الضمانة، البرلمان، بحيث تبقى البلاد مرجعية، خصوصاً وإن حقوقه مصانة لا يتطاول عليها منافس ولا يجرؤ على طلب المشاركة فيها أي طامع!
العذر واحد: طائفتي ستحاسبني، وأنا لا أستطيع أن أتحمل اتهامي بالتفريط بحقوق الطائفة التي أمثل!
بالطبع، يمكن صياغة العذر بطريقة ملتوية: تريدون دولة؟! حسناَ، أتركوني أبني لكم هذه الدولة، على طريقتي، وبعد ذلك حاسبوني!
ومشروع بالطبع أن يتساءل المرء : وكيف ستبني دولة طالما أن الرؤساء فيها يتعاركون على مدير، ثم لا يجدون من الحجج ما يستخدمونه لتأكيد تعلقهم ببناء الدولة إلا تركها، حتى لو أدى الترك إلى خراب ما تبقى منها!
إنه العجز عن الإنجاز!
إنها النرجسية القاتلة: أنا الدولة… وأنا أو الطوفان!
إنها العودة لاستخدام السلاح الطائفي كورقة أخيرة، بذريعة غبية: طالما لم نلغ الطائفية فلا بد من التمسك بآخر قطرة من حقوق الطائفة، وإلا فليتحمل غيري نتائج الخروج على هذا العرف المقدس!
تعطونني لشخصي، وباسم الطائفة، في الداخل، أبقى، أو أخرج إلى طائفتي فأخرجها من الدولة، وابنوا وحدكم دولة الطوائف الأخرى.
وليس السؤال: من هو على حق؟!
إنما الجواب الحقيقي: ما هكذا تبنى الدول، يا طويل العمل!

Exit mobile version