… ولكي “تتحرر” الدولة فلا بد – بداهة – من تعزيز قدراتها العسكرية وإمكاناتها الاقتصادية لكي تستطيع أن تنجز ما لا يمكن التلكؤ في إنجازه إن على مستوى البنية التحتية أو على مستوى تفريج الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية التي يكاد يختنق في أسارها المواطن المطحون بفجائع الحرب.
والدولة حتى هذه الساعة هي رهينة الحكم فيها، إذ هو مجسد صيغتها وهو – بعجره وبجره – الصورة المقربة لمؤسساتها العتيدة.
والحكم صيغة اضطرارية وانتقالية فرضتها ضرورات الخروج من الحرب، أما الدولة فهي المشروع الفعلي الناتج عن اكتمال السلام الوطني وهي في الوقت ذاته ضمانة توطده واستمراره.
والصندوق الدولي لإعادة إعمار لبنان يصب في خانة الدولة وليس في خانة الحكم، وحتى وإن أفاد من قيامه بعض الحكم معنوياً أو سياسياً وبحكم مصادفة التوقيت.
وحتى هذه اللحظة فإن ضعف الحكم وتردي أجهزته ومباذل بعض أطرافه ينعكس سلباً على صورة الدولة العتيدة ويلحق بها الأذى، ويستعدي عليها جمهورها الطبيعي من خلال تماهي الحدود بينها وبينه، لاسباب تتصل بمنطق المرحلة الانتقالية.
أما إذا اشتد ساعد الدولة عسكرياً بتعزز قدرات جيشها وترسخ وحدته على قاعدة دوره الوطني،
وأما إذا تأكدت إمكاناتها – كدولة – اقتصادياً بتنامي قدرتها على الإنجاز في مجالات الاعمار وإعادة البناء وتجديد البنية التحتية المتآكلة،
وأما إذا أعيد الاعتبار إلى النقد الوطني وتم تثبيت سعر صرف الليرة، وهو أمر يمكن تحقيقه،
وأما إذا تم ترميم سمعة لبنان (دولياً وبالتالي عربياً) وأزيلت التشوهات التي لحقت باسمه وبدوره، وحولته من منتجع ومصيف وناد فكري ومطبعة وصحيفة وقصيدة وكتاب، إلى وكر للإرهاب الدولي و”ملطش” لخطف الأجانب (والمواطنين!!) وبؤرة تستشري فيها الأمراض المعدية كالطاعون (على حد تعبير طيب الذكر شولتس)،
إذا تحقق ذلك كله، ولو على مراحل، فستغدو الدولة أكبر بكثير من أن يطمس صورتها الحكم أو تغطي عليها وتفسد هيبتها ممارسات بعض أطرافه، ويشلها استمرار “أمراء السلاح” أقوياء بسلاحهم وبمواقعهم داخل الحكم، عليها.
الدولة أقوى من الميليشيات قطعاً، حتى لو تجمعت في تنظيم عسكري موحد وإن تعددت ولاءاته وشعاراته الطائفية،
لكن الحكم لم يستكمل عدة قوته بعد، ولا يمكن في المرحلة الانتقالية التي تضطره إلى “استيعاب” الميليشيات في قيادته وفي جيشه وفي إدارته، أن يصبح قوياً ومنيعاً ومهاباً ومن ثم قادراً على الإنجاز.
وكما في الشأن العسكري كذلك في الشأن الاقتصادي، فالقرار الكبير (الآتي باسم الأقوياء في الخارج) هو الذي مكن من فرض حل الميليشيات وسحب السلاح الثقيل وفتح المناطق على بعضها وتأمين إعادة الاتصال بين المواطنين.
كذلك فالقرار الاقتصادي الكبير لا بد أن يأتي، وباسم الأقوياء في الخارج هو الذي يقوي الدولة ويحصنها في وجه الميليشيات التي تحولت إلى مافيات واحتكارات وصارت لها إمكانات مادية مؤثرة بادرت إلى توظيفها في مجالات حيوية بينها أجهزة الأعلام للتأثير على الرأي العام وقمعه… باسم الديموقراطية هذه المرة.
من يستطيع الادعاء إن هذه الحكومة التي جاءت لمهمة محددة قدرت مهلتها ببضعة شهور (ستة على الأرجح)، كان يمكن أن تستمر حتى اليوم وبالتالي حتى الفراغ من الفصل الافتتاحي لـ “مؤتمر السلام” لو إن القرار الاقتصادي الكبير اتخذ من قبل؟!
ومع إن حرب الخليج قد أبطلت مشاريع كثيرة وعدلت في موازين عديدة وفرضت على معظم دول العالم أن تعيد النظر في سياساتها وحساباتها، فإن من بعض دروسها أيضاً ضرورة تأمين نقاط الارتكاز الحيوية وبعض النماذج التي تلزم لتوكيد الحاجة إلى النظام العالمي الجديد الذي بشر به الرئيس الأميركي جورج بوش،
وليست الأوضاع في منطقة الجزيرة والخليج، والعراق بوصفه – بالنتيجة – الصحية الأخرى للحرب، هي التي يمكن تسويقها والترويج لها كنماذج حية للسياسة الأميركية الناجحة،
ولا هي بالقطع الأوضاع في إسرائيل التي لم تعد حتى في عين الغرب – وفي عين الولايات المتحدة الأميركية بالذات – “واحة الديموقراطية” في الشرق ولا خاصة الدولة المسكينة المعتدى عليها أو الخائفة من الاعتداء عليها في أي لحظة من جانب العرب المتوحشين والمتخلفين والمزودين بأسلحة دمار شامل لا يعرفون حتى كيف يستخدمونها،
فها هي إسرائيل تقاتل الأميركيين ورئيسهم في قلب الكونغرس بواشنطن وفي الساعة التي يتوج فيها نفسه ملك الكون وقيصر العالم الجديد،
… والدولة في لبنان تنشأ وتقوم، كما يعلمنا التاريخ، بقرار من الخارج،
فلبنان كيان سياسي وليس وطناً بالمعنى المألوف لهذه الكلمة في قواميس العلم السياسي والجغرافيا السياسية.
وطريف هو الحديث عن السيادة في كيان ما قام ولا كان يمكن أن يقوم أصلاً إلا بقرار سياسي يتخذه الأقوياء خارجه.
إن قيام الصندوق الدولي لإعمار لبنان يكاد يعادل، في هذه اللحظة التاريخية، الإفراج عن رهينة اسمها الدولة،
وهي رهينة قوى الخارج، أساساً، وقوى الأمر الواقع في الداخل استطراداً،
وفي دولة قرارها بهذا المستوى ما أسهل محاسبة الوزراء والنواب والرؤساء، سواء أكانوا قادة سابقين لميليشيات تحولت إلى مافيات أو زعماء لمافيات مارست وتمارس على الصعيد الاقتصادي عمل الميليشيات الطائفية المسلحة على الصعيد السياسي وأكثر.
وتعزيز فكرة الدولة يعجل بانتهاء المرحلة الانتقالية ويعيد الحكم إلى حجمه الطبيعي بينما الفراغ كان يعطيه حجماً أسطورياً إذ لا يُرى فيه غيره. فالدولة وحدها تحرر الحكم – الرهينة أو تلغيه.