كمثل الإعلان عن رابح الجائزة الكبرى في اللوتو اللبناني، تعلن الولايات المتحدة الأميركية أسماء الحكام العرب الذين قررت خلعهم، منذرة أولئك الذين تضعهم قيد الاختبارن مطمئنة “المرضي عنهم” والحائزين نعمة القبول والاستمرار حيث هم، أقله حتى إشعار آخر.
وكمثل الإعلان عن إطلاق رائد فضاء جديد، أو عن وصول نجم سينمائي ساحر بوسامته، أو عن بلوغ خيال مارلبورو القمر، مثلاً، كان الإعلان عن قدوم مدير “السي، آي، أي” روبرت غيتس إلى المنطقة لإجراء مشاورات في مصر والسعودية وإسرائيل تستهدف إسقاط النظام العراقي، وفرض العقوبات ضد ليبيا.
إنه ليس استفزازاً، إنه احتقار وامتهان مطلق “لحقوق الإنسان العربي” في أرضه، ولحرياته جميعاً وأبسطها حريته في أن يقول رأيه في نظام الحكم القائم في بلده، وأن يقرر هو – وبملء إرادته – أن يسقطه أو أن يبقيه، بمعزل عن عاطفته وإيمانه بوطنية هذا الحاكم أو ذاك.
مدير المخابرات المركزية الأميركية يتشاور مع إسرائيل حول حكام العرب، ويبلغ هذه الدولة العربية أو تلك مهماتها ودورها في تنفيذ خطته بالنسبة لهذا القطر العربي، أو ذاك.
حتى أيام الانتداب والاحتلال المباشر والحماية كانت الدول الاستعمارية أكثر تحفظاً وأعظم مداراة لشعور المواطن العربي وهي تفرض عليه – بالقهر – إرادتها خدمة لمصالحها.
بل إن إسرائيل ذاتها، ومن موقع العدو، كانت تمارس سياسة “أذكى” تقوم على تحريض الشعب ضد “حاكمه الدكتاتور”، ولا تتباهى مستعرضة قوتها بأنها ستخلعه مباشرة، مسبغة على نفسها صفات الإرادة الشعبية أو حتى خوارق القدرات الإلهية!
ومن أسف لم يرتفع أي صوت عربي بالاحتجاج،
جل ما حدث أن النظام المصري تنصل من عبء المشاركة في المهمة القذرة، وإن صحف الحكم السعودي حددت سقف طموحه بأنه إنما يريد “قص أجنحة صدام حسين وليس خلعه”!!
ما لجرح بميت غيلام؟!
ولكن، ما لنا ذهبنا إلى البعيد وإلى الذرى الشاهقة،
إن بعض السفراء الغربيين في بيروت يعطون أنفسهم من لاحقوق والصلاحيات ما يفوق ما تنتزعه لنفسها “ترويكا الحكم” بأطرافها الثلاثة المتفاهمين إلى حد الموت عناقاً!
وفي الغالب الأعم لا يتورع السفير الأميركي (أو البريطاني) عن إطلاق تصريحات خارجة على الأعراف الدبلوماسية، وفيها الكثير من التجاوز والافتئات على السيادة، وهو بعد على باب هذه المراجع المهابة، والتي سرعان ما تضيف إل ما قاله ما يشكل إدانة قاطعة لها في تفريطها بالسيادة والعنفوان إذ تعترف بأنها أشركته في ما لا يجوز له المشاركة فيه…
وجولات السفير الأميركي رايان كروكر تعدت المراجع السياسية إلى وزارات الخدمات، كالصحة والمالية والهاتف الخ وضرورة تفعيلها، وىراؤه امتدت لتصل إلى الانتخابات وكيفية إجرائها ومواصفاتها المطلوبة…
وبين تصريحات السفير البريطاني ما يمكن اعتباره شهادات حسن سلوك للطوائف اللبنانية ورغبتها في السلام وولائها للبنان المستقل الخ.
كأنها “وكالة من غير بواب” كما يقول المثل المصري الدارج،
كأن المنطقة العربية برمتها أرض خراب، لا بشر فيها ولا أصحاب لقرارها، ولا وجود لإرادتها، ناهيك بالحقوق والكرامة والعزة والسيادة والاستقلال وموروثات العصر التحرري البائد!
إنه العصر الأميركي!
وهذا مفهوم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
ولكن، من قال إن الولايات المتحدة الأميركية هي “الله” سبحانه وتعالى، وما تريده يكون، وما ترفضه يسقط حكماً ويجر على أصحابه اللعنة والخذلان؟!
إن روبرت غيتس الآتي وكأنه الحاكم بأمر الله على العرب، وعلى العرب وحدهم، موظف يخضع للمساءلة والحساب في بلاده ذاتها، ويقام عليه الحد فيمنع من تنفيذ ما يمس سمعة الولايات المتحدة أو ما يشكل عبئاً مالياً على موازنتها أو يخرب علاقاتها أو مصالحها في هذه الجهة أو تلك.
ومن المخزن أن نقرأ في الصحف الأميركية انتقادات لغيتس هذا، ولمهمته الجديدة القذرة، وتحذيرات من نتائجها التي قد تشكل خطراً على المصالح الأميركية، في حين تنفتح له أبواب القصور الملكية في أرض العرب، ويعامل وكأنه “القدر” ما يمنعه هو الممنوع وما يسمح به هو المسموح، بوصفه الجبار، والهاب، المعطي، القهار، القادر، الآمر الناهي، لا يكون أمر إلا بإذنه ولا تقع شعرة من رأس إنسان إلا إذا أذن لها فوقعت!
منيهن يسهل الهوان عليه،
وما الفرق بين روبرت غيتس الأميركي، اليوم، وروبرت غيتس الإسرائيلي غداً… وإن غداً لناظره قريب؟!
بل لعل غيتس الإسرائيلي قد بدأ يصول ويجول في القصور الملكية العربية إياها، “ينصح” و”يشير” ويقرّب ويبعد، يرفع من يشاء ويخفض من يشاء، “حرصاً على سلامة صاحب الجلالة وأسرته ونظامه”؟!
إلى أين من هنا؟!
ولماذا إذن كل هذا الرهط من الملوك والرؤساء والقادة الأفذاذ طالما أن موظفاً أميركياً برتبة مدير مخابرات يستطيع أن يقرر لهذه المنطقة، وبالنيابة عن (شعبها!) وحكامها جميعاً، ما يصلح لها وما يلحق بها الضرر؟!
ويا أصحاب الجلالة المعظمين: رفقاً بالصديق غيتس، فهو لا يستطيع أن يتحمل كل هذا الإجلال والإكرام.
وكيف بالله يستطيع أن يتحرك إذا هو أثقل بألقابكم جميعأً من أمير المؤمنين إلى الرئيس الملهم إلى خادم الحرمين الشريفين؟!
ثم… ماذا يتبقى لكم أنتم بعد ذلك، وماذا تراكم تفعلون في الفترة بين زيارتين للمستر روبرت غيتس؟