غداً، الثلاثاء الواقع في 31 آب 1976، يقرر الياس سركيس ، وفي دمشق، هل يريد (وأن نقول كغيرنا: هل يستطيع؟) أن يكون رئيساً لكل لبنان ولكل اللبنانيين أم لا.
ففي ضوء تصرفه في دمشق، وبمواجهة حاكميها يقرر أولئك اللبنانيون الذين لم يتخذوا منه موقفاً بعد، وهم الأكثرية الساحقة، أن يعطوه أو يعطوه “صوتهم” مكرسين بالتصويت له “شرعيته” وجدارته الوطنية بأن يحكم لبنان واللبنانيين في السنوات الست المقبلات.
كذلك ففي ضوء تصرفه في دمشق وبمواجهة حاكميها يحدد الفلسطينيون موقفهم النهائي منه بوصفه “عهداً جديداً” وليس امتداداً لعهد الدم المنتهي.
في دمشق ومنها يجب أن ينتزع الياس سركيس الإقرار باستقلاله أولاً، واستقلاله عن دمشق وحاكميها تحديداً، ليمكنه من ثم إقناع الناس بأنه إنما يعود إليهم من سوريا باستقلال لبنان الناجز والكامل عنها، وقد غدا مطلباً “وطنياً” في هذا الزمن الرديء!
إنه يذهب وحيداً كالمقطوع من شجرة: لا دولة عنده ولا مؤسسات، لا جيش ولا قوى أمن ولا إدارات، لا وزارة ولا مشروع جاهزاً لوزارة ولا مجلس للنواب يستحق هذه التسمية.
هذا كله صحيح…
لكن الصحيح إن الياس سركيس صار رئيساً بزعم إنه يملك الإرادة لأن يقيم مثل هذه الدولة التي يعرف جيداً – وأكثرمن غيره – بأنها لا تقام بالنيابة، ولا تستورد جاهزة من “بلاد بره”، ولا يبنيها إلا أبناؤها وعلى أرضهم ووفق حاجاتهم ومدى تطورهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
والياس سركيس يعرف إن الدول لا توهب وكذا مؤسساتها والجيوش، وإن الأمن لا يستتب بمجرد الخوف من بطش السلطة، كذلك فهو لا يتوافر بإخفاء السلاح نهاراً لاستخدامه في اصطياد دبابات “جيش الاحتلال” البطاش ليلاً،
والياس سركيس يعرف – بالتأكيد – إن الأمن هو الوجه الآخر لتوافر الخبز والمدرسة والبيت والعمل الشريف.
وعلى الهامش، فالياس سركيس يعرف، ويجب أن يتجاوز تقارير محترفي وضع التقارير ليعرف إن “طلائع” الجيش اللبناني العربي الذي “فبركه” الحكم السوري عندما أدخل قواته إلى البقاع في الطريق إلى الجبل والجنوب، ليس جيشاً وليس شيئاً. إنه تجميع لبعض الخائفين من السوريين أو الطامعين “بخيرهم” وخير الياس سركيس باعتباره “وكيلهم” في لبنان، وأفضل من في هذه الطلائع بعض بسطاء الناء الذين “التحقوا” ليؤمنوا راتباً في آخر الشهر فيطعموا الصغار.
ولنتحدث بشيء من الصراحة،
لقبد سبقت المطاعن الرئاسة إلى الياس سركيس، وأبسط ما قيل ويقال فيه وعنه: لولا الدعم السوري (المسلح) لما صار رئيساً للبنان.
وأبسط نفي لرئاسة الياس سركيس بعد التسلم والتسليم (لو تما) أن يستمر ويتقنن هذا الدعم السوري المسلح، خصوصاً وإنه غدا الآن ثلاث فرق أو يزيد من الجيش السوري “النظامي” وليس مجرد (عناصر) من الصاعقة “المموهة” لبنانياً وفلسطينياً.
وقيل ويقال: إن الياس سركيس صار رئيساً نتيجة للتحالف بين “الجبهة اللبنانية” أي زعامة الانعزالية اللبنانية والحكم السوري، وإن غاية دمشق الأساسية من هذا التحالف هي: اجتذاب الرئيس الجديد بعيداً عن “المتطرفين” الفلسطينيين كما عن الحركة الوطنية أو اليسار في لبنان ممثلاً بجبهة الأحزاب الوطنية والتقدمية.
ومع إن الناس يحفظون لالياس سركيس مبادرته، أثر انتخابه رئيساً، على لقاء ياسر عرفات وكمال جنبلاط، فإنهم ينتظرون الآن باهتمام ما سيفعله بعد العودة من دمشق، وهل يستغني بمن فيها ومن معها من اللبنانيين عمن ليسوا فيها وليسوا معها من اللبنانيين وغير اللبنانيينز
وأنجح ما يكون الياس سركيس واقوى ما يكون حين يتصرف في دمشق وكأنه يمثل في جملة من يمثل، ياسرعرفات وكمال جنبلاط، بل وحتى جورج حبش وسائر رفاقه في جبهة الرفض الفلسطينية.
ونستدرك فوراً فنقول:
لا أحد يطلب أو يتوقع أو يريد من الياس سركيس أن يذهب إلى دمشق ليعلن فيها وبمواجهة حاكميها “القطيعة”… فهذا أمر خارج قدرته فضلاً عن أنه غير مطلوب وغير ضروري على الاطلاق.
لكي يحكم الناس سركيس يجب أن يكون “سوريا” بهذه النسبة أو تلك، ذلك إنه لا يستطيع أن يحكم لبنان من موقع العداء لسوريا.
هذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً، إن الياس سركيس لا يستطيع أن يحكم لبنان من موقع التبعية لسوريا، ولا نفترض إنه يرضى لنفسه مثل هذا الموقع، كما إننا لا نرضاه له مثلما لا نرضى له ومنه موقع المعادي لسوريا.
على إن الياس سركيس سيحكم، لو حكم بلداً “فلسطينياً” بنسبة ملحوظة،
من هنا توجب عليه أن يكون قوياً مع السوريين وأن ينجح في انتزاع احترامهم غداً ليمكنه من ثم أن يكون قوياً مع الفلسطينيين ومحترماً منهم.
وتوجب عليه أساساً أن يرتفع فوق الخصومة العارضة بين الحكم السوري وقيادة المقاومة الفلسطينية، فهذا شرط الاحترام المطلوب من الطرفين، والارتفاع يكون بتبني موقف “قومي” ملتزم بقضايا الأمة وعلى رأسها تحرير الأرض المحتلة والاستعداد لمواجهة العدو الصهيوني إنجازاً لهذه المهمة النبيلة،
وفي كل حال فإن الياس سركيس لن يكون قوياً على اللبنانيين، كل اللبنانيين، ومهاباً منهم، بالقدر الكافي ليحكمهم، إلا إذا عاد من دمشق وفي حثبته احترام السوريين المستتبع بالضرورة احترام الفلسطينيين وسائر العرب.
من دمشق وفيها يمكن أن يعود الياس سركيس رئيساً لكل لبنان وكل اللبنانيين حين يرفض أن تحكم (أو تحاكم) له وباسمه ونيابة عنه هذه المنطقة أو تلك من بلاده وهذا الاتجاه السياسي أو ذاك من الاتجاهات السائدة بين مواطنيه.
من دمشق، وبقدر ما يكون الياس سركيس فلسطينياً فيها، يمكن أن يعود رئيساً يحترمه الفلسطينيون فيلتزمون بالاتفاقات المعقودة أو التي ستعقد.
بل إنه بمقدار ما يكون الياس سركيس فلسطينياً في دمشق يعود قوياً على الجيمع:
*على الفلسطينيين في لبنان الذين لن تنتهي مصادمتهم مع السوريين إلا إذا قام حكم لبناني قادر على فرض احترامه عليهما معاً بأن يكون عادلاً في علاقته بهما معاً، و “وطني” بمعنى إنه يملك إرادة التصدي للعدو الإسرائيلي الذي يقرض الآن وعلى مهل جنوب لبنان في ظل الوجود الكثيف للجيش السوري في البقاع والشمال.
*وعلى اللبنانيين ، كل اللبنانيين…
فالحركة الوطنية لا تريد منه أكثر من علاقة جيدة مع المقاومة الفلسطينية، ذلك إن من الشروط العملية والمحققة لهذه العلاقة الجيدة أن يتوافر في النظام “صلاح” يتجاوز بالتأكيد ما تضمنه البرنامج المرحلي للأحزاب،والطرف الانعزالي سيرضى مرحلياً إذا رضيت دمشق و”ضمنت” له الحكم الجديد الذي حاول أن يقتله أول الأمر بالتبني، وسيحاول أن يقتله آخر الأمر بالتنصل منه … وربما من دمشق، متى جاءت اللحظة الموعودة والمحددة في “الخطة”.
*وعلى العرب، لأن من يجمع بين رضا السوريين وقبول الفلسطينيين وتأييد اللبنانيين يكون داهية عصره وعبقري زمانه.
الياس سركيس: الطريق إلى دمشق قصيرة، لكن طريق العودة طويلة جداً جداً، إذ هي تعبر كل العواصم قبل الوصول إلى بيروت، وتعبر تحديداً تلك الأرض التي يحتلها العدو الصهيوني والتي يهرب الحكام العرب منها ومن رؤيته فيها إلى… محاربة بعضهم البعض.
وبين بيروت ودمشق فلسطين، حتى لو سقط تل الزعتر.. بل وحتى لو أبيدت المخيمات جميعاً.
وهذه الحقيقة هي المدخل إلى الحكم في لبنان يا فخامة الرئيس العتيد.