صار المطلب: تنظيم الاستسلام،
فالعواصم العربية تتهاوى وتسلم مفاتيحها للعدو بلا قتال، وغالباً بذريعة العجز عن القتال والخوف من احتمالاته المدمرة لو وقع مجدداً، لا سمح الله!
بعد قاهرة المعز، واستسلامها العلني، وبعد تهاوي “المملكة” وتبرعها برفع الأعلام البيضاء بالأصالة عن نفسها و”بالوكالة” عن مجلس التعاون الخليجي، وبعد عمان التي تستعجل تقاسم التركة الفلسطينية مع تل أبيب، ها هي تونس ترحب “باستضافة” الإسرائيليين – رسمياً – كوفد في لجنة اللاجئين المنبثقة عن “المفاوضات المتعددة الأطراف”!
الإسلام إلى الخارج، وإسرائيل إلى الداخل؟!
أما العروبة فلطيم أو لقيط ترمى على باب الجامع المقفل بالشمع الأحمر، فلا تجد من ينتسب إليها أو يعترف بالانتساب إليها!
طويت رايات “الكفاح المسلح”، ووئدت أحلام “التحرير”، وتبرأ الجطميع من شبهة الانتماء إلى “الثورة” بعدما صنفها النظام الأميركي الجديد للعالم “إرهاباً”، وأنكرت العلاقة بفكرة “الوحدة” ولو من باب التمني أو اتباعاً لغواية شيطان الشعر والشعراء،
ماذا يبقى، إذن، غير الاستسلام؟
… خصوصاً وقد باتت “المقاومة” جناية تكاد تعادل “الخيانة العظمى”، أما “الإسلام” فهو – والعياد بالله – أخطر أنواع “أسلحة الدمار الشامل”، وأما الحرب فهي فعلاً كما سماها الأقدمون “الكريهة” ثم إنها نتاج إسرائيلي يقاطعه العرب ويحرمه حكامهم تحريماً!
السؤال: لماذا سقوط ما قبل السقوط؟!
لماذا استباق ما يسمى “التسوية” بـ “الاستسلام”؟!
مفهوم أن يهرب حكام الهزيمة و”عاصفة الصحراء” من الحرب، ولكن لماذا يرفضون الذهاب معاً إلى “سلام الشجعان”؟!
لماذا يأمل الأخ لحم أخيه نيئاً؟!
لماذا يتآمر هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم خارج الصراع على “إخوانهم” المنخرطين في الصراع والذي يتعلق وجودهم ومصيرهم بنتائج هذا الصراع، فيطعنونهم من الخلف ويحملون رؤوسهم إلى العدو، بغير طلب وبغير جميل؟!
لماذا لا ينتظرون (أقله!!) نتائج المفاوضات الثنائية والمباشرة (وبشروط العدو)، فيصرون على كسر ذلك النفر “الفدائي” من الدبلوماسيين العرب الذين يقاتلون داخل تلك القاعات الباردة في وزارة الخارجية الأميركية بواشنطن؟!
في الذكرى الخامسة للانتفاضة المجيدة لشعب فلسطين العربي داخل أرضه المحتلة، وبينما الفتية الغر يواجهون جيش الاحتلال – وبالرصاص – فيصرعون ثلاثة من جنوده، كخطوة متقدمة على طريق المواجهة اليومية، يعلن وزير خارجية إسرائيل شيمون بيريز أن تونس قد وافقت ولأول مرة على “استضافة” وفده إلى المفاوضات المتعددة، رسمياً!
النتائج قبل الأسباب! الإذعان أولاً، ثم تأتي بعد ذلك المبررات!
طبعاً ستكون ذريعة تونس أن قيادة المنظمة هي التي طلبت (برغم نفيها)، وإنها لم تفعل غير تلبية رغبة فلسطينية، وستكرر المعزوفة المشروخة والقائلة: إن الفلسطينيين أدرى بشؤونهم، وإن الكل يجب أن يكونوا معهم في ما يقررون، وإن ذلك حق من حقوقهم في ممارسة القرار الوطني المستقل!
في الحرب يتبدل المنطق فيصير: اذهب أنت وربك فقاتلاً،
وأما إذا لاحت نذار الاستسلام فيسابق “المساندون” و”المناصرون” الفلسطيني ليوقعوا قبله، أي ليوقعوا به، ثم يقولون بتشف: هو أراد لنفسه هذا المصير، فلماذا نكون ملكيين أكثر من الملك؟!
أكل ذلك لشراء رضا بيل كلينتون، والانسحاب من تهمة الانحياز إلى جورج بوش ضده؟!
مفهوم أن يقول رئيس وزراء إسرائيل (وكلامه موجه إلى الرئيس الأميركي الجديد) أن “النتائج الطيبة” للمفاوضات ستظهر خلال السنة المقبلة (أي في عهد كلينتون).
لكن إسحق رابين أعطى وعداً بالبيع، ومن كيس العرب، ولم يتبرع فيستبق التطورات بتنازلات مجانية (وعن أرض غيره)… بل هو استدرك متحفظاً فقال: فإن لم يكن على جميع الجبهات، أو مع جميع الأطراف، فمع بعضها على الأقل!
فلماذا هذا التزاحم العربي على الاستسلام، حتى من قبل أن يطلبه “السيد” الأميركي؟
إذا لم يكن “الإسلام هو الحل”، كما يقول غلاة الأصوليين، فهل الاستسلام هو الحل؟!
وكيف يطلب من يلغي نفسه، انتماءه وهويته وعلاقته بأرضه ومستقبله، أن يعترف به الآخرون؟!
وهل قدوم وفد إسرائيلي (رسمي) إلى تونس سيزيد من منعتها أو سيحصن نظامها؟!
لقد حفظ العرب للتوانسة إنهم استضافوا أشقاءهم الفلسطينيين في أشد لحظات محنتهم بؤساً، وأعادوا الاعتبار إلى الرئيس السابق الحبيب بورقيبة وقد كان مرذولاً في شارعهم… فلماذا التفريط الآن؟!
أم أن الحكام العرب باتوا يسعون إلى استدراج الوصاية الأميركية (تحت راية الشرعية الدولية) تارة عبر “عاصفة الصحراء” كما في الجزيرة والخليج، وطوراً عبر عملية “إعادة الأمل” كما في الصومال الذي تنفتح أرضه اليوم لطوابير الجند الآتين من أقصى الأرض لإغاثته من غائلة الجوع والعجز عن حكم نفسه بنفسه؟!
… وإذا كان لا بد من وصاية أفليس من الأفضل أن تكون أميركية بدلاً من أن تكون إسرائيلية؟!
أم أنه لا فرق عند المندفع إلى الاستسلام بغير قتال لمن يسلم رايته المكسورة وشرفه المهيض: المحتل الأرض أم الإرادة، خصوصاً إذا ما اعتبرهما واحداً؟!