حركة المد والجزر في الكويت (وسائر الخليج) أعنف وأبقى أثراً مما تعرف الشواطئ المتوسطية،
وغالباً ما يفاجئك البحر، حين تفتح نافذتك صباحاً، بأنه قد رحل بعيداً تاركاً خلفه القعر بما حوى، وما أدراك ما يحوي قعر البحر من طحالب وطين لزج وبقايا أسماك وصخور جرحها الموج تطل خجلة بعريها المكمد، فلا هي تنفع حاجزاً للريح ولا هي تستطيع أن تبرر وجودها بخصوبة “الأرض” من حولها!
ولم يشتهر الكويتيون، عبر التاريخ، إلا بأنهم غواصون ممتازون يعرفون مكامن اللؤلؤ. إنهم تجار أعماق البحار الشطار. وهم قد دفعوا ثمن الخبرة باهظاً، ومن قبيل تأصيل التعود فإن اسم “لولوة” هو المفضل لفتيات الكويت اللواتي انطلقن وقد انفتحت المحارة أخيراً ليعوضن دهر الانحباس في عتم بلا نهاية بينما هدير الحياة لا يتوقف موجه الصخاب ولا يهدأ.
.. لكأنما يطل الكويتيون الآن ومعهم سائر العرب على قعر البحر السياسي اللبناني الذي كادت حركة المد والجزر فيه أن تدمر البر ومن عليه. كل هذا ولا “لولو” ولا محار!! والذين جازفوا فحاولوا الغوص طلباً “للحل” الغالي، كما اللؤلؤ، وأكثر ذهبوا ولم يعودوا!
بقدر ما هي محزنة، بشريط الذكريات والوقائع والأحداث المرة، فإنها ممتعة “جلسات الاستماع” هذه التي تعقدها اللجنة العربية برئاسة الشيخ صباح مع أطراف الصراع من القيادات اللبنانية، المتعددة الأزياء والطروحات والتعابير المستحدثة!
يكفي أن تتصور المراجع الدينية المسيحية جالسة إلى “كرسي الاعتراف” تقول لـ “الشيخ” الكويتي ومن معه همساً لا تجرؤ على الجهر به ، تورعاً أو خشية أو حياء أو ضماناً لاستمرار الدور في المستقبل.
.. وأن تتصور المراجع الدينية الإسلامية وهي تجار بالشكوى الحبيس في الصدور أمام من تفترض فيهم الالتزام بقاعدة “المجالس بالأمانات” إنها ولأول مرة، تتخلى عن لغة الإيماء والإيحاء والإشارة وتقول ما تخاف من مجرد التفكير به، فإذا جال “شبحه” في خاطرها استعاذت بالله من الشيطان الرجيم وأخرجت الصوت مخنوقاً بكلمتين اثنتين “يا لطيف، يا ستار..” وقد تضيف إليها بعد تردد: يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف!
متعطن هو قعر البحر اللبناني الذي انكشف لكاشفي الغطاء من “غواصي” جامعة الدول العربية، تزدحم فيه الأشياء وبقايا الأشياء والرموز التي استولدتها الحرب ثد أعادت هي بدورها إنتاج الحرب.
ونحب أن نفترض إن الجميع، من متحدثين وأعضاء لجنة الاستماع، يستشعرون ثقل الوزر وتحكم تصرفاتهم عقدة ذنب من استفاق على هول نتائج تقصيره، أو إهماله، أو انحيازه بالتعصب أو بالمصلحة لطرف من الأطراف. فها هم جميعاً يكتشفون، ولو متأخرين ، إنهم إنما انحازوا إلى صف الحرب، بالصمت أو بالتواطؤ أو بالجبن أو بالتقاعس لا فرق.
نحب أن نفترض إن أعضاء اللجنة العربية يدركون الآن وبالملموس فداحة النتائج الناجمة عن الإهما لالعربي للمسألة اللبنانية ليس فقط على لبنان وبنيه بل عليهم جميعاً في مختلف أقطارهم القريبة من دائرة النار أو البعيدة بالمسافة والقريبة بآثار الحريق أو بآثار الخوف من الخوف منه،
ونحن أن نفترض إنهم يحاولون الاعتذار عن حقيقة بائسة وهي إنهم إنما تأخروا في التحرك، وامتنعوا عن المبادرة حتى جاءتهم الاشارة من حيث ينتظرونها، فهبوا إلى “إغاثة الملهوف” و”نجدة” من شارف على الموت غرقاً في دمائه – دمائهم.
ونحنب أن نفترض، أيضاً، إنهم يتمنون في أعماقهم لو إنهم كانوا أكثر قدرة على الحركة وأقل عجزاً عن الفعل، في السابق والراهن واللاحق. فهم عرب، في خاتمة المطاف، أي إنهم أصحاب الشأن، وهم الأحرص على أشقائهم في لبنان، من الأميركيين أو الغربيين أو سائر أهل الأرض. ولعل بعضهم يتحرق غيظاً، ويتمزق قهراً من عجزه الذي أقعده عن بذل “أضعف الإيمان” حيث كان شعب لبنان يبذل فلا تردد وبلا حدود وهو يقاتل ضد العدو الإسرائيلي، قبل الاجتياح وخلاله وبعده، ويقاوم حتى لا تأخذه أمواج التعصب الطائفي بعيداً عن وطنيته أو إلى موقع ينتقص من التزامه القومي.
أما مراجعنا، أصحاب الغبطة والسماحة والسيادة، فلا شك إنهم قد مارسوا شيئاً من النقد الذاتي، بعد أن أفرغوا شحنة الغيظ والغضب من أولئك الذين عطلوا دورهم وحولوهم إلى مجرد مبرين على مضض، أو شهود زور على واقع منكر لا يستطيعون له تبديلاً، أو حتى محاولة تبديله.
فكما إنه ليس بين المسؤولين العرب بريء من دم الصديق اللبناني، كذلك فليس ثمة بريء بين المسؤولين في لبنان، رسميين كانوا أو “شعبيين”، روحيين كانوا أو زمنيين أو من أولئك الذين حاولوا أن يضيفوا إلى حقهم المحفوظ في اللجنة حصة محترمة في الحياة الدنيا!
كلنا شركاء في المسؤولية عن هذا الحدث الجلل الذي أصاب العرب في لبنان،
المتنصل منانفق أو متآمر أو متشاطر يحاول أن يستغفل الناس، والناس عليه شهود!
هذا في جانب السلبيات، وهي أحد وجهي الصورة، فماذا في خانة الإيجابيات، ما تحقق بالفعل منها حتى اليوم، وما هو أقوى من وعد أو تعهد أو استنتاج بالتقدير وإن كان ما زال أقل من حقيقة مقررة؟!
1 – سيذكر للعرب إنهم، أخيراً، حاولوا فمدوا أيديهم للمساعدة، بغض النظر عن مصدر الإيعاز وأهدافه… فهم كانوا ينتظرون هذه الاشارة، وقد اندفعوا بكل الحماسة والرغبة في التعويض، إلى العمل، وأن تجيء متأخراً خير من ألا تجيء أبداً!
2 – وسيذكر للعرب إنهم، ولأول مرة، تعاطوا مع الشأن اللبناني بكل تعقيداته، وبوصفه “مسألة عربية” ، هي بعض نتاج الماضي، وهي بعض أسباب أزمتهم الحادة في الحاضر، وهي بعض معطلات التقدم إلى مستقبل كريم ولائق إذا هم لم ينجحوا في حسمها بحل طبيعي.
لقد استمع العرب ولسوف يستمعون إلى مختلف أطراف الصراع في لبنان، بكل أبعاده المحلية والإقليمية (وهو تعبير مبتكر لتحاشي التسمية الأصلية الثقيلة الوطأة التي تسمي الصراع العربي – الإسرائيلي باسمه الصريح) والدولية.
أي إنهم اعترفوا بالجميع وهذه خطوة أولى في الاتجاه الصحيح، حتى لو كان الاعتراف مدخلاً إلى الإلغاء لاإلى التثبيت.
3 – سيذكر للعرب، أيضاً، إنهم تنبهوا ، ولو متأخرين، إلى خطورة التحولات التي تهز الدنيا، والتي من شأنها إذا ما استمروا سادرين في غفلتهم أن يشطبوا من عالم الغد، برغم عددهم اللجب، وبرغم الثروات الأسطورية للنفطيين منهم. وبرغم الجيوش المعطلة المعطلة التي ينشئون لحروب غير التي يفرضها عليهم التحدي الصهيوني.
أما بالنسبة لأصحاب الغبطة والسماحة والسيادة فلا شك إنهم قد بلوروا، أمام اللجنة العربية، مجموعة من الحقائق، وساعدوا على إسقاط الكثير من الأوهام التي كانت سائدة، ومن بينها:
إن الكل في الهم سواء، فلا البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير، ابن كسروان ومتسنم كرسي أنطاكية وسائر المشرق، والذي مجد لبنان أعطي له، مرتاح في مقره ببكركي. ولا هو قابل بواقع طائفته الذي كاد يفرض عليها سور العزلة، ولا هو قادر على لعب الدور المنتظر والمطلوب منه. ولعله قد اعترف إنه عاش محاصراً لسنوات، يتحاشى أن يقول حتى لا يغضب من بيدهم السلاح، ويخاف أن يفصح فيستعديهم عليه.
كذلك فلا بد إن مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد، الذي جاوز حد القول في مواقف مشهورة، حتى اتهم بالتسرع والانفعال، قد أطلق العنان لشكواه من ضيق بيروت بما أصابها ويصيبها، وتضرر طائفته من التهميش ومن سياسات القطيعة والمقاطعة والمطالبات بتدمير صيغة 1943.
ولا بد إن نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين قد لامس وضع الطائفة المأزوم من زاويتين الاحتلال الإسرائيلي للجنوب. والموقع السياسي للطائفة الأكثر عدداً في صلب النظام وصيغة الحكم. فهو يريد تغييراً في الداخل يؤدي إلى تغيير في أسلوب التعاطي مع هذا الخطر الداهم على جبل عامل إنه “محروم” من الحياة الطبيعية في بيروت، و”محروم” من مجرد العيش في الجنوب طالما استمر الاحتلال والقدرة على تجديده. مستقبلاً، أو مد رقعته بقدر ما تطال اليد الإسرائيلية وهو لا يقبل التقوقع في منطقة بالذات، بل ولا تتسع لطائفته منطقة بالذات، واستطراداً “الحصة” المعروضة عليها من كعكة الحكم.
… والوفد الممثل لشيخ عقل الطائفة الدرزية لا بد إنه حرص على توكيد وجدوية الطائفة وعودتها إلى أفياء العيش المشترك التي “هُجرتط منها فهجرت من استخدم ذريعة لتهجيرها، مستدلاً بمؤتمر بيت الدين وبشهيد العمل لتجديد الوحدة أنور الفطايري… ولا بد إنه تحدث فأطال حول مضار الانعزال والتقوقع واستحالة الحياة من دون الآخرين وبالتضاد معهم.
أما بطريرك الأرثوذكس أغناطيوس هزيم فليس بحاجة لأن يعيد تكرار ما قاله مراراً، وربما لهذا كلف بدور الناطق باسم المراجع مجتمعين، فموقفه المعلن كان من الحدة بحيث صار قضية داخل “الصف المسيحي”. ولعل هذا الموقف الصريح والجريء قد عجل باليقظة المسيحية لخطورة استمرار الصمت إزاء المشاريع التقسيمية، فكان إن أعلنها البطريرك صفير صريحة مدوية: لا نقبل بالعزلة أو بالتقسيم، ولا يتوهمن أحد إنه قادر أن يعيش وحده، ولا بد من تجديد وحدة البلاد لأن فيها الإنقاذ للجميع.
وبرغم إن بطريرك الكاثوليك مكسيموس الخامس حكيم يفضل العمل الصامت والأساليب الدبلوماسية الناعمة، إلا أنه جدد إعلان الموقف الوحدوي الصريح الذي تحاشت الطائفة أن تخرج عليه، وإن كانت تكرر الاغراءات والضغوطات والتهديدات لإخراجها عنه فكانت تجربة زحلة المرة التي “تنذكر ولا تنعاد”.
إذن فالطوائف جميعاً، وعبر رموزها المرجعية، رافضة للانعزال، للتقوقع ، للتقسيم، للانغلاق، واستطراداً للفيدرالية والكانتونات والتضمين الخبيث لتعابير سياسية “بريئة” من نوع: اللامركزية الإنمائية وما شابهها.
*هذا وهم لعله داعب في فترة خيال بعض أصحاب الطموح أو بعض المغلقين بالتعصب، وهو الآن ساقط لا يجد من يتبناه.
*وهم آخر سقط يمكن تلخيصه بالآتي: إن الحرب تصل بنارها إلى الجميع. لا سدود أمامها ولا حدود، ولا يمتنع عليها حتى الذين يعيشون في أعالي الجبال المرتفعة… فهي تدرك الطوائف (والأفراد والأحزاب والعشائر الخ) ولو كانت في “بروج مشيدة”.
*وهم ثالث سقط: إن الأجنبي لا “يحب” طائفة بالذات، ولا يحمي طائفة بالذات، ولكنه يحب ويحمي مصالحه، ولو أدى الأمر إلى إبادة الطوائف جميعاً، بالتهجير أو بالترحيل، بالقتل الجماعي أو بالانتحار الجماعي، لا فرق!
*وهم رابع سقط أيضاً أو هو في طريقه إلى السقوط، إن أي نظام عربي، يعلن انحيازه إلى فئة أو طائفة بالذات إنما يهدف، أولاً وأخيراً، إلى إدامة الحرب في لبنان، مرة لإحراج نظام مخاصم، ومرة لإشغال شعبه عن همه الذاتي المباشر، ومرة ثالثة خدمة لمصالح أجنبية مكلف برعايتها في المنطقة،
*وهم خامس سقط وإلى الأبد، وكان سقوطه عظيماً وهو إن العدو الإسرائيلي قد يتحول إلى حليف، في أي مكان من دنيا العرب وفي أي مكان من أرضهم. إنه عدو الجميع، مسيحيين ومسلمين، فلسطينيين (مهما تنازلوا) ولبنانيين (مهما أعماهم التعصب عن تبين طبيعته وأغراضه وأطماعه في أرضهم ومياههم ودورهم في المنطقة).
متعطن هو قعر البحر اللبناني، لأنه مليء بأشلام الأوهام التي تناثرت هباء عندما أطلت شمس حقائق الحياة.
ولسوف يتساقط المزيد من الأوهام كلما توغلت اللجنة العربية في البحث الجدي في أسباب المشكلة، وكلما اجتهدت في أعداد مسودات صيغ مشاريع الحلول الممكنة والعملية.
وإذا كانت أحداث “الشرقية” المؤلمة في الأسبوع الماضي قد عجلت في إسقاط الأوهام التي حماها السلاح لأطول مما يجوز في أوساط الطائفة العظمى، فإن الحقائق الأصلية برزت مكتوبة – مرة أخرى – بدم الأبرياء.
ولقد أكدت هذه الأحداث ضرورة إسقاط وهم قاتل، لعله الأخطر، وهو إن السلاح قد يحل أزمة سياسية (لها عمقها الطائفي، ولو مصطنعاً) . فكيف بالأزمة الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أو كل ذلك مجتمعاً؟!
السلاح السلاح، السلاح،
السلاح وحاملوه، السلاح والمستقوون به على أهلهم وعشيرتهم الأقربين، السلاح المدجج بالطائفية، السلاح المعزز بالطائفية : هذا هو مقتل لبنان، وهذا هو ما يجب أن يكون موضوع المكافحة ليمكن فتح باب الحل العتيد،
ويا أيها الأخوة العرب: إن أخطر دور لعبه ويلعبه السلاح وحملته المدججون والمنتفعون بالطائفية، إنه قد عطل الدورة الطبيعية للصراع السياسي، أي للديموقراطية، أي للحريات جميعاً وفي مقدمها حرية التعبير،
ويا أيها الأخوة العرب: إن الديموقراطية ضمانة عربية للبنان وضمانة لبنانية للتقدم العربي،
ويا أيها الأخوة العرب: لعلكم لا تخطئون، مرة أخرى، فتقبضون على القتيل (والصحافة مثلها مثل سائر الحريات) وتكافئون القاتل، لأنكم تفترضون إنه قد أراحكم من بعض المتجرئين على مقامات الحكام منكم بطول ألسنتهم أو بمس ما لا يمس أو بقول ما لا يعجبكم قوله.
ويا أيها الأخوة العرب: إنكم تكبرون بالحرية في لبنان وتنتفعون بها نفعاً لا مجال لتعويضه، تماماً بقدر ما نصغر نحن ونتضاءل بالطائفية وبمسلحيها الذين يقتلون منا وفينا بقدر ما يقتلون منكم وفيكم!
… وفي انتظار “بدر” عربي ينشط حركة المد والجزر في البحر اللبناني ويكشف كل العطن فيه، لكم أطيب التمنيات من أعزل إلا من رأيه الذي قد يخطئ ولكنه يظل نافعاً حتى وهو مخطئ بينما الطائفية “مصيبة” حتى وهي مصيبة!