يريدك حكام زمن الردة والتردي أن تصدق إن الشمس يمكن أن تشنق نفسها بأشعة الضياء، وإن الوردة تنتحر إذا ما استنشقت عبق عطرها، وإن النيل يموت إذا ما شرب من مياه فيضانه – العيد، وإن الأرض تقتل نفسها متى تفجرت بالخصومة والعطاء السخي!
يريدونك أن تصدق إن مصر تأكل أبناءها حتى تسترضي أعداء الحياة فيها، وتدين أبطالها حين يثورون لكرامتها، وتبصق على تاريخها وترمي مجد اسمها في أكوام النفايات، وتخرج عارية عارضة نفسها على النخاسين، وكل ذلك حفاظاً على معاهدة الاذلال بالصلح المنفرد مع عدو وجودها ودورها وحقها في الحرية والحياة التي لا يمكن أن تكون كريمة إلا بالانتماء القومي!
يريدونك أن تصدق إن “سليمان المصري”، المقاتل الفذ ضد الذين باعوا بلاده ومستقبله بثلاثين من الفضة، والمحارب لوحده ضد الذين اختلسوها، قد حكم على نفسه بنهاية يهوذا الاسخريوطي ذاتها!
يريدونك أن تلغي عقلك وإدراكك ووعيك لكي يصبح بإمكانك أن تقر بأن الكرامة والعزة وشرف الانتماء لا توصل إلا إلى الجنون، ولكي تؤمن بأن الوطنية لا توصل إلا إلى الانتحار، بالمعنى الحرفي للكلمة،
يريدونك أن تصدق – قهراً وزوراً – إن سليمان خاطر مجنون مرتين: مجنون بالشجاعة حين أحب مصر وشهر سلاحه باسمها ومن أجلها ظل يرمي أعداءه حتى نفدت ذخيرته، ومجنون بالجبن حين كره مصر ونفسه إلى حد أن ينتحر مشنوقاً بملاءة سريره!
في حالة البطولة وصفوه بالجنون في محاولة لمنع عدواه من الانتشار، وهي لا بد ستنتشر ناراً تحرق الخونة، من أهل التطبيع مع العدو الإسرائيلي، والارتهان للإرادة الأميركية، ونوراً يهدي المكافحين من أجل غد الخبز مع الكرامة.
وفي حالة إقدامهم على قتله عمداً وصفوه بالمصروع والمصاب في أعصابه ومعدته، هو الذي شهد له حتى مكرم محمد أحمد (رئيس تحرير “المصور” وأحد المنظرين لزيارة العار ونتائجها) بأنه “كان طبيعياً تماماً، فرحاً، ومهتماً بمستقبل دراسته، وهو طالب حقوق، وإنه استرحم مدير السجن ليحصل على بعض الكتب ليستعد للامتحانات”.
لقد كان المحتل الفرنسي ارحم مع البطل الآخر، سليمان الحلبي، الذي آلمه أن يشهد امتهان كرامة أمته بإذلال مصر، فأقدم على قتل الجنرال كليبر (أحد قادة حملة نابليون ضد الشرق)، فلقد حرص القادمون باسم الثورة الفرنسية لاستعمار الشعوب على مراعاة الشكليات القانونية، فأقاموا “محكمة” وكلفوا محامياً منهم بالدفاع عن الطالب الأزهري الشاب القادم من حلب، قبل أن يحكموا بإعدامه.
أما حكام زمن الردة والتردي فقد تولوا مباشرة تنفيذ المهمة القذرة: قتل مصر كلها وشنق كرامتها والتشهير بتاريخها عبر “اتهام” سليمان خاطر بالجنون مرتين. ثم عبر تصفيته وهو سجين ينتظر المحاكمة ليقول كلمة مصر في التطبيع ومعاهدة الصلح المنفرد والاستسلام والمتجرين بشرف مصر ولحمها.
في الخاطر ستبقى يا سليمان وعدا بفيضان الخير الآتي، وبشارة بأن الليل لا يدوم إلى الأبد، فلقد ثقبته رصاصاتك ثم مزقته جماهير شعبك العظيم نتفاً وهي تخرج هاتفة لمصر فيك، لمصر التي لا يمكن أن تستسلم أو تموت مشنوقة بملاءة إسرائيلية!
وسيسقط ويندثر هؤلاء الذين خافوا منك وأنت سجين، فقتلوك ليثبتوا أن إسرائيل أقوى منهم داخل مصر ذاتها،
يكفيك شرفاً إنك حتى وأنت ميت كانت قدمك أعلى من رأس جلاديك من مرتزقة عصر السلام الإسرائيلي الذي يتهاوى تحت ضربات أبطال المقاومة الوطنية في أرض عربية.. وهذا جنوب لبنان الشاهد والدليل والمنارة الهادية.
وبعد اليوم صار لـ “مصر التي في خاطري” اسم وصورة يستقران في وجدان كل عربي مع أسماء أبطالنا الخالدين من جول جمال إلى عبد الكريم الخطابي ومن عبد المنعم رياض إلى عميروش وصولاً إلى بلاد فحص ونزيه قبرصلي وراغي حرب ومحمد سعد،
بغير أن ننسى الحاضر والمستحضر دائماً بصورة البطل والغد الأفضل جمال عبد الناصر، الذي أرادوا اليوم أيضاً أن يقتلوه مرة أخرى.