ليس أمتع من أن تسمع الرئيس حافظ الأسد يستعيد وقائع الحرب اليتيمة التي اتخذ العرب القرار بالذهاب إليها، بينما كانوا يؤخذون إلى سائر الحروب مرغمين وبمذكرات إحضار وغالباً بعد انتهائها بهزيمتهم.
تتبدل الملامح الهادئة إلى حد الوداعة، وتلمع العينان ببريق مشع، وتضج النبرة بشيء من الاعتزاز بالأمة، بالمقاتل العربي، وتكتسي الأرض قداسة دم الشهداء.
التفاصيل، كل التفاصيل. الوقائع الميدانية جميعاً: إعداد الدبابات والمدرعات والطائرات والحوامات، أسماء القادة والجنود المبرزين، أسماء شهداء الموجة الأولى، جغرافية المواقع بالتلال والهضاب والأودية والسهوب. الإنجازات والإخفاقات، وجوه التقصير أو التسرع الناجم عن الحماسة واستعجال الشهادة.
تحسه قد عاد إلى غرفة القيادة، وأمامه الخرائط بالدبابيس عليها والخطوط والكتل، ومن حوله المساعدون وضباط الأركان، يستذكر حتى أسماء السعاة والرتباء وعمال الهاتف.
اللحظة المتوهجة بمجد القرار لا تزال حية تنبيض وتضيء ما جاء بعدها من أيام الشقاء وتعاسة الانتكاس الناجم عن التخلي وخداع الشريك بالدم.
إنه يستوطن تلك الأيام المجيدة التي بدأ بها التاريخ الجديد انطلاقاً من الساعة الثانية من بعد ظهر يوم السبت الأغر الواقع فيه 6 تشرين الأول (أكتوبر) 1973. لم يكن يوم ميلاده فقط، لقد تحول إلى يوم الولادة الجديدة للمقاتل العربي، للقرار العربي الخطير، للجدارة العربية بالنصر.
ولا يمكن فهم مسلك حافظ الأسد في ما أعقب تلك الحرب وما نتج عنها وصولاً إلى مؤتمر مدريد و”العملية السلمية” الجاري التفاوض بعد حول شروطها، إلا باستذكار أيام تشرين المجيدة.
لأنه قاتل فهو الأعظم تقديراً لأعباء السلام، ولكنه وهو يتجه إلى التفاوض بشرف يحرص على عدم التفريط بنقطة دم واحدة. كيف يستوي الحديث عن السلام إذا ما تم فصله قسراً عن استعادة الجولان وكل شبر من الأرض العربية المحتلة، يستوي في ذلك جنوب لبنان أو القدس الشريف في فلسطين؟
ولأن الأمة جميعاً كانت في الحرب معه، ومعظم الأقطار أوفدت – ولو متأخرة – بعض جندها للمشاركة في شرف القتال من أجل التحرير، فهو قد يعذر ولكنه لا يغفر لهؤلاء الذين يندفعون الآن إلى العدو وكأن الخلاف معه كان أمراً عارضاً ومحدوداً في الزمان والمكان ويمكن حله بالتنازل أو بالتفريط أو بتطمينه إلى مستقبل وجوده على أرضنا.
صارت الذكريات عبئاً… وهرب كثيرون من صورهم “القديمة” طلباً للغفران. رموا الأوسمة ونوط الشرف وباعوا السلاح واشتروا أسهماً في الشركات المربحة أو بعض سندات الخزينة الأميركية.
صار النفط سلاحاً ضد العرب، بدءاً بأهله الأقربين، وليس سلاحاً في أيديهم.
وصار “العرب” ضد “الإسلام”، يقاتلونه ويقاتلهم أو يقتتلون في قلبه وبه وعليه بدل أن يقاتلوا به فينصرهم،
بل صار العرب “أمماً شتى”، وتصدعت أركان الدولة الواحدة من دولهم العديدة، وتفرق شعبها “قوميات” و”عناصر” وطوائف ومذاهب تفصل بين كل منها والآخرى خنادق من الدم،
صارت إسرائيل هي “الرابط” الجديد بين العرب الممزقين بالانقسامات والتيه والقمع وافتقاد القيادة والطريق… تكاد تتوسط بينهم، بل وتكاد توحدهم في فيء نظامها المبتكر للشرق الأوسط الجديد.
صارت إسرائيل السفارة والسفير بين عرب المشرق وعرب المغرب، وصارت الملاذ والحامي الأمين لدول النفط في الجزيرة والخليج.
وفي الذكرى الأولى بعد العشرين لحرب أكتوبر – تشرين – رمضان – العبور، التي نسيها معظمهم، قدم “الأخوة الخليجيون” أجمل “هدية” لأشقائهم الذين ما زالوا في الميدان بعد، وبالذات منهم سوريا ولبنان، حين رفعوا المقاطعة عن المتعاملين مع إسرائيل، موفرين للعدو السابق مزيداً من عناصر القوة والضغط لإكراه “المكابرين” على أن ينضموا إلى ركب المفرطين والمتخلين عن هويتهم وتاريخهم ودماء شهدائهم.
يقول حافظ الأسد بهدوء ينضح صلابة: – أمامنا التاريخ، يعلمنا ويرشدنا. ليس التنازل عن الحق طريقاً إلى السلام. وما بني على القهر لا يدوم. ولا أفهم سر استعجال هؤلاء المتلهفين على أي اتفاق مع اليهود. إننا في أرضنا، ويمكننا الصمود. إذا كنا لا نقدر على شن الحرب وإنجاز مهمة التحرير فليس البديل الحتمي أن نتخلى عن حقوقنا التي حفظها أجدادنا وتسلمناها أمانة وعلينا أن نسلمها لأبنائنا من بعدنا. إن الظروف الراهنة قاسية، ولاكن يفترض بالإنسان أن يكون أقوى من ظروفه. لقد انتظر عدونا طويلاً جداً حتى واتته الظروف لتحقيق ما يريده، فلماذا لا نتعلم منه، خصوصاً وإن التاريخ معنا وليس معه، وكذلك الأرض. والسلام أخطر من أن يترك للمفرطين.
في الذكرى المجيدة ليوم القرار المجيد: تحية للذي ذهب إلى الحرب بإرادته، والذي يرفض أن يذهب إلى “السلام” بإرادة العدو.
تحية إلى حافظ الأسد وسوريا والصامدين في لبنان، ومن تبقى معهم من العرب.