جاء جورج شولتس إلى منطقتنا مرتين خلال خمس سنوات:
في المرة الأولى، جاء مزهوا، متجبراً، مفترضاً أنه آت لكي يحصد ثمار “النصر” بعد الغزو الإسرائيلي للأمة العربية كلها، عبر لبنان والمقاومة الفلسطينية والوجود العسكري السوري فيه.
وها هو يجيء الآن مضطرباً، مشوشاً، عاجزاً، شاكياً من سوء تفسير مهمته ونواياه، سلفاً، وحائراً كيف ومن أين وبماذا يبدأ لكي “يحجم” الهزيمة الإسرائيلية في مواجهة انتفاضة الأمة العربية عبر فتيتها الأبرار في فلسطين المحتلة.
وكما تصرف شولتس، في المرة الأولى، انطلاقاً من أن اجتياح لبنان صيف العام 1982 هو نصر أميركي – إسرائيلي، مشترك، فهو يتصرف الآن منطلقاً من أن الانتفاضة المجيدة في أرض فلسطين المحتلة المستمرة منذ ثمانين يوماً هي هزيمة أميركية – إسرائيلية مشتركة.
أتى شولتس، في المرة الأولى، ليسوق، بلهجة القادر على القرض، اتفاق الإذعان (17 أيار سنة 1983) الذي يشطب القضية الفلسطينية، ويلغي الدور السوري نهائياً في المنطقة، وينهي لبنان كمنارة عربية بإدخاله في إطار كامب ديفيد تمهيداً لتعميم “الصلح المنفرد” وطي صفحة النضال القومي الذي تمحور دائماً وأبداً – في التاريخ الحديث – حول الصراع العربي – الإسرائيلي.
وها هو الآن يأتي ليسوّق، بلهجة العارض والراشي، محاولة مفضوحة لاحتواء الانتفاضة المجيدة وتحويلها من عنوان للأزمة المصيرية التي تعصف بالكيان الصهيوني، وبالتالي الامتداد الغربي داخل الأرض العربية، إلى بداية جديدة لحرب أهلية عربية جديدة.
إنه آت في مهمة محددة: الالتفاف على الانتفاضة، بنتائجها المحققة حتى الآن، وهي خطيرة، والمحتملة مستقبلاً، وهي أخطر، والتداعيات المنطقية المترتبة على هذه وتلك، وهي ذروة الخطر ليس فقط على “آمن” إسرائيل وحدود توسعها، بل أساساً على وجودها ذاته، مباشرة كما عبر نظام الهزيمة العربية الذي يضمن لها الوجود ناهيك بالحدود الآمنة وإمكانات التوسع الإمبراطوري.
إنه آت لعله ينجح في ما أخفق في تحقيقه قادة إسرائيل، ومعهم من معهم من المتخاذلين العرب، أي: إجهاض الانتفاضة، وتحويلها إلى فتنة.. وبدلاً من أن تكون مقدمة “للثورة” العربية في فلسطين ضد إسرائيل، الكيان الاستعماري الاستيطاني الغربي، هوية ودوراً، وضد الهيمنة الأميركية على مقدرات العرب وثرواتهم، يحاولون عبر محاولة الاحتواء حرفها عن مسارها بحيث تتحول إلى اقتتال فلسطيني، أو إلى حرب فلسطينية ضد العرب عموماً من المحيط إلى الخليج.
فالانتفاضة، اليوم، عند المفترق: أما أن تكمل طريقها كثورة شعبية ضد المحتل وقاهر الإرادة والمقهورة إرادته والمستسلم، وأما أن تصطدم بجدار الرفض الإسرائيلي وأيضاً بجدار الصمت (بل التواطؤ) الذي تتحصن خلفه انظمة الهزيمة العربية، فتتجمد ثم تستنقع فتتآكل، مع كل ما يرافق الشعور بالعجز من مرارات وأحقاد وخيبات يحمل مسؤوليتها “الأهل” و”الأقربون” فيكون الرد بإنكار الانتماء والهرب في اتجاه “التفاهم” مع العدو مباشرة طالما إن الكل في الخارج خونة وغدارون وباعة أوطان!
على أن الوقائع والتحولات التي جرت وتجري لا تخدم كثيراً ما أتى من أجله وزير الخارجية الأميركية الذي “اشتراه” أغنياء العرب فباعهم قبل صياح الدين… ومجاناً!!
بل إن الوقائع، بداية، تكاد تغير من طبيعة المعلن حول هذه المهمة، وتكاد تمنع من تحقيق أهدافها الأصلية.
من ذلك:
*إن الانقسام داخل إسرائيل، حكماً وحكومة و”شعباً”، أعمق من أن يستطيع وسيط، ولو بمستوى وزير خارجية أميركية، أن يحله، لأن أسبابه تتعدى اليوم معطيات الصراع السياسي بين تيارات واتجاهات “داخلية”، إذ إنها تنبع من حيثيات “وجود” إسرائيل اصلاً.
وهكذا فإن شامير الذي يستقبل شولتس مرغماً، لا يختلف في العجز عن بيريز الذي يستقبله مهللاً وكأنه ما أتى إلا لدعمه في كسب معركة الانتخابات المقبلة.
إن الانقسام مرشح للتفاقم لأن لا أحد في إسرائيل يجرؤ على أن يطرح الحل الفعلي، ولو بحده الأدنى، كما أن الموفد الأميركي لا يملك أن يقنع أحداً من العرب، داخل فلسطين، أو خارجها، بمشروعه المرتجل والمنطلق من مكمن الخطأ التاريخي إياه وهو: إنكار حقيقة أن الفلسطينيين شعب ككل الشعوب، له أرضه ومن حقه أن يقيم عليها دولته وفق إرادته الحرة ومصالحه الحيوية.
*إن شعب فلسطين المحتلة مستمر في انتفاضة إلى ما شاء الله، زمنياً، ومن الصعب، بل المستحيل، أن نتصور إننا نصحو ذات يوم فنجد أن الانتفاضة قد توقفت، هكذا وبلا سبب غير التعب أو نقص المواد التموينية أو ازدياد الضغط الإسرائيلي.
*إن استمرار الانتفاضة سيحرج أكثر فأكثر الأنظمة المتورطة مع الإسرائيليين مباشرة، أو عبر الأميركيين… وبغض النظر عن النوايا والرغبات فمؤكد أن استسلام النظام المصري لمنطق كامب ديفيد سيتهاوى أكثر وأكثر، طالما أن الانتفاضة قد جعلت معاهدة الذل تلك كخيوط العنكبوت، على حد تعبير حسني مبارك.
*إن صديقاً تاريخياً للولايات المتحدة الأميركية كالملك حسين يفضل أن يبقى بعيداً عن عاصمة ملكه، حتى لا يلتقي فيها الموفد، فهو يعرف سلفاً أنه لا يحمل إليه ما يفيده، بل لعله يشك الآن في أنه ربما حمل أو سيحمل إليه في غد ما لا يسره وما يجرده من ألقابه والعرش.
*إن الانتفاضة تمنع المفرطين من الفلسطينيين من أن يقابلوا شولتس ليتواطأوا معه على شعبهم، كما أن العجز الأميركي عن تقديم أي مشروع حل يمنع شولتس من السعي للقاء مع منظمة التحرير الفلسطينية هو المدخل لأي تعاط جدي مع مسألة في مثل خطورة المسألة الفلسطينية.
*إن جورج شولتس الذي كان جاهر بعدائه لدمشق وللقيادة السورية، خارجاً على أبسطج الأصول في العلاقات بين الدول، يزور دمشق اليوم مرغماً، مدركاً أن قيادتها قد حققت على قيادة بلاده – وهو منها – نصراً سياسياً باهراً ، وإنه هو شخصياً سيذهب إلى الظل، بعد شهور، ليتسلى بمضغ الثمار المرة ليساسة القبضة الحديدية التي نافس فيها الكاوبوي الأميركي، وعلى مستوى العالم، الليكوديين في إسرائيل.
إن شولتس آت لكي يشتري “الحجارة”!
إن شولتس آت لكي يحول اتجاه الحجارة، فبدلاً من أن تتجه إلي وتصيب هدفها الصحيح، لعلها ترسل في الاتجاه الخطأ فترتد على مطلقها.
وبالتجربة، على امتداد الثمانين يوماً، ثبت أن هؤلاء الفتية الأبرار في فلسطين ليسوا اقل حكمة ووعياً من عتاة السياسيين، وهم بالتأكيد يعرفون كل شيء عن شولتس ومهمته وأهدافه الخبيثة.
كما أنهم يستذكرون، وبوعي نادر وكل ساعة، تجربة لبنان، وتجارب الجميع في لبنان، وعلى وجه التحديد تجربة جورج شولتس.
وبيروت على مرمى حجر من دمشق،
ودمشق على مرمى حجر من فلسطين،
وثمة في الأرض حجارة تفيض عن الحاجة، خصوصاً وإن الحجارة صارت أجمل من الورد وأبهى وأضوع عطراً.