طلال سلمان

على الطريق شخصية كريستوفر وإغراء الصلح المنفرد

لا مجال للاجتهاد أو للتراجع، ولا خيار حيث لا قدرة على المفاضلة قبل الاختيار.
… وسيذهب العرب إلى الجولة التاسعة من المفاوضات الثنائية مع العدو الإسرائيلي وتحت الرعاية الأميركية بعدما أعاد تحديدها شفهياً وزير الخارجية الأميركي في الإدارة الجديدة، ثم عمم التحديد مساعده أدوار دجيرجيان بالقول: “لسنا الحكم، ولا نحن الوسيط، ولا نحن من يملي على الأطراف ما الذي يتعين عليها أن تفعله أو لا تفعله”.
لقد سمع العرب من وارن كريستوفر بعض ما كانوا يتشوقون إلى سماعه، فاطمأنوا – نسبياً – إلى أن التغيير في الإدارة الأميركية لا ينسحب انقلاباً في سياستها حيال الصراع العربي – الإسرائيلي، بحيث تندفع إلى تبني الموقف الإسرائيلي تحت ضغط اللوبي الصهيوني برموزه العديدة والنافذة داخلها (وخارجها)،
وسمع الإسرائيليون من كريستوفر ما ينفع رئيس حكومتهم إسحق رابين في زيارته القريبة إلى واشنطن، إذ سيكون – وكالعادة – أول من يلتقيهم الرئيس الأميركي (الجديد) من أطراف الصراع، وأعظمهم تأثيراً عليه، ليس فقط بحكم “التحالف” وإنما أساساً لأنه “شريك كامل” وبالفعل لا بالقول في تنفيذ أو تسويق السياسة الأميركية في “الشرق الأوسط”.
وإذا كان من الصعب معرفة ما قاله كريستوفر، بالضبط، لكل من التقاهم من القادة والمسؤولين، وبالذات منهم العرب، فإن مما يساعد على فهم أسلوبه هو طريقة تقديمه نفسه، ومن ضمنها توصيفه لعلاقته مع رئيسه بيل كلينتون.
… خصوصاً وإن وارن كريستوفر يختلف تماماً عن سلفه جيمس بيكر الذي عرفه المسؤولون العرب عن كثب، وفهموا إلى حد كبير طبيعته وأسلوبه وطريقته في التفكير ثم في طرح المسائل.
ويلخص بعض هؤلاء المسؤولين الفوارق على الشكل التالي:
“كان بيكر أقرب على الارستقراطي، وفي تكوينه شيء من الغروب والصلف، ثم إنه عصبي المزاج إذا ما احتدم النقاش، ولأنه طموح، ويتطلع إلى الرئاسة، فلقد كان يضع في اعتباره دائماً صدى كلامه داخل الولايات المتحدة الأميركية،
“أما كريستوفر فهو هادئ الطبع، يبدو متواضعاً، ويبتعد عن الحدة، ومن الصعب استفزازه وإخراجه بأحراجه، ثم إنه ليس عظيم الطموح ولا يضع الرئاسة نصب عينيه، وهو يتصرف على أنه إنما يقول بمهمة كلفه بها الرئيس ويريد أن ينجح فيها، وبالتالي فهو أقل اهتماماً بوقع كلامه أو نتائج مهمته على رصيده الشخصي وعلى صورته لدى الناخب الأميركي. وهو دقيق جداً في اختيار عباراته وكلماته، ويوظف تقدمه في السن لتبرير هذا الأسلوب الهادئ والرصين وميله إلى التدقيق واستخدام تجربته في استنباط تعابير جديدة مبهمة ولكنها مفيدة في تجاوز الحرج أو الإحراج”.
أما كيف يقدم كريستوفر نفسه، فهنا محاولة لاستعادة بعض ما سمعه منه مسؤولون عرب كبار خلال جولته الأولى في المنطقة:
” – لأنه اللقاء الأول، وحتى أسهل عملية التعارف، اسمحوا لي قبل أن نباشر البحث أن أقدم نفسي…
“أنا رجل متقدم في السن، كما تلاحظون، لي خبرتي ولي تجربتي في الداخل الأميركي كما في الشأن الخارجي، ولكن لم يكن في ذهني أن أتصدى لحمل المسؤولية من جديد..
“وثمة صداقة قديمة تجمعني أنا والرئيس بيل كلينتون، وكنت بين من زكوه ودعموا ترشيحه للرئاسة باسم الحزب الديمقراطي. كنت أشعر أن بلادنا تحتاج إلى نهج تغييري وإلى أن يتولى جيل جديد المسؤولية فيها،
“وحين فاز كلينتون بترشيح الحزب، أولاني مسؤولية حملته الانتخابية، ولقد كنت واحداً من الذين ساعدوه في اختيار المرشح لنيابة الرئاسة، إذ قدمت له لائحة من خمسة أسماء لاختيار واحد منهم، وكان ألبرت آل غور، واحداً من هؤلاء الخمسة.. وآل غور، للمناسبة، صديق شخصي وأعرفه عن قرب.
“كانت الحملة قاسية، وكانت المعركة عنيفة وصعبة، كما تعرفون، إذ كنا نواجه رئيساً قوياً. لكن إحساسنا بصدق الرغبة عند الأميركيين في ضرورة التغيير، وفي ضرورة الالتفات إلى أوضاعنا الاقتصادية المتردية. وإلى إعطاء فرصة لجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، كان يمدنا أو يعزز فينا القدرة على المنافسة فالمواجهة.
“ولقد حدث أن فزنا. كان ذلك تتويجاً لمجهود طيب وفعال.
“وحين باشر بيل كلينتون الاستعداد للمارسة مسؤولياته كرئيس للولايات المتحدة، كلفني بتشكيل حكومته، ولقد أبلغته منذ اللحظة الأولى أنني متقدم في السن، وإنني لا أريد لنفسي أية مسؤولية، ولكنني مستعد لمساعدته بما أملك من معرفة وخبرة.
“وأصارحكم أن بيل كلينتون كان يتوجه إلي بطلباته ويعاملني ويبلغني أنني في منزلة والده، خصوصاً كلما ألححت عليه برغباتي في الابتعاد عن ممارسة المسؤولية مباشرة.
“وبعدما أكملت مهمتي في اختيار أعضاء الفريق الأميركي ، بادئاً بالاقتصاديين وأصحاب الأفكار والمشروعات والمقترحات اللازمة للنهوض الاقصتادي، وانتهاء بالوارات فاجأني الرئيس بإبلاغي أنني سأكون وزير خارجيته.
“عبثاً حاولت الاعتذار عن عدم قبول هذه المسؤولية، قلت له إنني بحكم سني لا أستطيع أن أجاريه في حركته النشيطة، وقد لا أستطيع أن أمضي نصف الوقت في طائرة تحملني من بلد إلى آخر، بينما موجبات المنصب تفرض ذلك… وقلت له إنه لا بد سيجد في محيطه من هو أكثر حيوية مني، لكنه أصر معتبراً أن زخم الشباب عنده وعند معظم أعضاء فريقه يحتاج إلى حكمة الشيوخ ليعطي الأفضل.ز
“وهكذا ترون إننا مزيج من حماسة الشباب وحيويته ومن حكمة الشيوخ ورزانتهم، وهو مزيج غير سيء كما نامل”.
هل يوضح هذا التقديم لشخصية وارن كريستوفر وعلاقته بالرئيس الأميركي دور “الشريك الكامل” الذي اجتهد دجيرجيان لتفسيره فزاده غموضاً من خلال قوله: “إن ما نعنيه بدور الشريك الكامل هو إننا مستعدون لأن تستخدم الولايات المتحدة مساعيها الحميدة كوسيط نزيه، وكقائم بالوساطة، وكمساعد لدفع محادثات أو مفاوضات مهمة إلى الأمام، وأن نبذل كل جهد مخلص لنجعل الأطراف تحرز تقدماً في المفاوضات إنه موقف يميل إلى التنشيط”.
حماسة الشباب ممزوجة بحكمة الشيوخ؟!
ولكن، هل ينفع هذا المزيج في “إغراء” إسرائيل بالانخراط الفعلي في هذه المحاولة من أجل تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي؟!
خصوصاً وإن إسرائيل الحريصة على إعلان استعدادها للذهاب إلى “السلام” لا تفتأ تلغم الطريق وتزرع العبوات الناسفة في قاعات التفاوض، وتصطنع أحداثاً من شأنها تفجير المفاوضات، إما بإحراج الطرف (الأطراف) العربي لإخراجه، وإما بالالتفاف على الموقف الأميركي لاستدراجه بعيداً عما قرره لنفسه حين اعتمد صيغة “مؤتمر مدريد للسلام”؟!
إن مسلك رابين يعتمد سلسلة متصلة من المناورات المدروسة للتخلص من الالتزام بالتسوية، كما حدد إطارها مؤتمر مدريد، من دون التصادم مع الإرادة الأميركية.
إنه ضد التسوية. لكنه يفضل أن يترك العرب يخرجون من إطارها المحدد الآن، فإذا ما تم تحطيم هذا الإطار – الضابط لن يتبقى غير مشاريع الحلول المنفردة بصيغة “كامب ديفيد”.
ومن آسف فإن بعض الأطراف العربية تسهل عليه مهمته… وإذا كان الحكم المصري لا يملك غير تزكية الصيغة التي اعتمدها قبل خمس عشرة سنة، فإن الطرف الفلسطيني الرسمي يتذرع بالتخلي العربي ليهرب إلى مثلها، حتى وإن كان يدرك إنها لا تعني غير الانتحار.
كذلك فإن رابين، ومن خلال افتعاله مشكلة جديدة (بطرد 415 فلسطينياً من بيوتهم في الأرض المحتلة)، قد فرض تعديلاً على جدول الأعمال المفترض للمفاوضات، وحاول تقديم المشكلة الجديدة التي افتعلها على القضية الأصلية (مصير الأرض العربية المحتلة وقرارات الأمم المتحدة التي تشكل إطار التفاوض ومضخمونه الفعلي على قاعدة الأرض مقابل السلام).
إنه يحاول تمزيق الصف العربي، المتصدع أصلاً، بطرح مشكلة جديدة تختلف من حولها المواقف باختلال المصالح أو النظرة إلى المصالح، ثم يتذرع بهذا التمزق العربي “ليغري” الولايات المتحدة بالانسحاب، أو على الاقل بتخفيف اهتمامها بمشروع تسوية يختلف عليه المعنيون به.
هذا مع العلم بأنه يحاول وباستمرار تحميل سلفه إسحق شامير مسؤولية “توريط” إسرائيل في هذه العملية، ويرى نفسه ملزماً – بالإكراه – على الاستمرار فيها شكلاً ومحاولة التملص منها عملياً من دون إغضاب الأصدقاء الأميركان.
لقد نجح كريستوفر في تقديم نفسه للعرب،
ولكن، هل نجح العرب، في تقديم أنفسهم لكريستوفر، بما يساعده على “إقناع” رئيسه بضرورة ممارسة دور “الشريك الكامل” بالفعالية المطلوبة إنقاذاً “لمؤتمر السلام” ونتائجه العتيدة؟!
أم أن الإسرائيلي كان أكثر إقناعاً، وسينجح غداً مع بيل كلينتون في تزيين “فضائل” الصلح المنفرد، والمضي قدماً في لعبة إعواء كل طرف عربي لبيع أخوته وشركائه طلباً لصفقة خاصة لن ينالها أبداً، ولكنه سيكون قد خسر احتمال التسوية الشاملة؟!
والجواب عند العرب، وليس عند الإسرائيلي، وليس حتى عند كريستوفر الذي قدم نفسه جيداً، وأثبت كذلك أنه مستمع جيد، ولكنه يفهم على طريقته.
و”حكمة الشيوخ” تعطي بعداً إضافياً لفهم الملتبس من القول.

Exit mobile version