مبكراً يجيء زمن الرحيل، ويأخذ الكمد رجالاً كانوا يستعدون للمزيد من المهمات الجليلة، ولإعادة رفع الرايات التي نكستها الخيبة والمرارة واتفاقات الصلح المنفرد!
مع كل خبر عن انتكاسة قومية يتوارى بعض أهل الطليعة ممن نذروا أنفسهم للنصر الموعود، فواجهوا وقاتلوا بالفكرة والكلمة والرأي دعاة الاستسلام للأمر الواقع والانصياع لإرادة العدو.
حسين القوتلي رحل حتى لا يرى المزيد من الانهيارات والانحرافات والانجراف في الطريق الغلط،
فهذا الرجل الصلب الذي تربى في مدرسة قومية كانت تعتبر الوحدة قبلة النضال وفلسطين سيفه، لم تروضه الإغراءات ولم تلو ذراعه التهديدات ولم تغره المناصب… بل إنه حمل أفكاره معه إلى منصب مدير الإفتاء، مقرراً أن الوطنية والقومية ليستا رجساً من عمل الشيطان بل هما شرط من شروط الكفاءة والإخلاص في خدمة الحقيقة والناس.
ولا يصح التأريخ لهذه المرحلة من تاريخ لبنان الحديث، بل من تاريخ القضية الفلسطينية والنضال القومي من أجلها، إلا بإبراز ذلك الدورالمميز الذي لعبه حسين القوتلي في الشارع كما داخل دار الفتوى، وفي قلب الحركة الوطنية كما على مستوى العلاقة مع المقاومة الفلسطينية، كذلك على مستوى العلاقة مع القيادة السورية ومع قيادة ثورة الفاتح في ليبيا.
… ولما تحوّل السلاح عن أهدافه الأصلية، وصارت الميليشيات أقرب إلى العصابات، ثم أخطر من المافيات، ابتعد حسين القوتلي عن دائرة الغلط، وانصرف إلى ما ينفع الناس، فعكف على القراءة من أجل أن يككتب أو يعيد كتابة التاريخ الصحيح لهذه الحقبة الحافلة.
إن الخسارة فادحة… فالأقلية من الصامدين على إيمانهم القومي تتناقص باستمرار، لاسيما أولئك الذين لم يعانوا أي إشكال في التوفيق بين عروبتهم وبين إسلامهم، بين وطنيتهم والنضال القومي.
والخسارة في بيروت أعظم، فحسين القوتلي، في جملة مزاياه، أحد الوجوه المضيئة في بيروت – الأميرة.
وحسين القوتلي هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، فينفي بدوره الفاعل على المستوى الوطني كما على المستوى القومي تلك الصورة التي روّجت عن بيروت فجعلت أهلها مجموعات من التجار وأصحاب المصالح ليس إلا،
ولقد أفنى حسين القوتلي ، وبعض جيله، شبابهم في العمل العام مقدمين وجه بيروت لاأصيل، متحملين خسائر فادحة، إذ ذهبت النيابات والوزارات والزعامات إلى غيرهم ممن كان ينفي عن بيروت و”البيارتة” أية علاقة بالسياسة… خصوصاً في إطارها القومي،
مبكراً تركتنا يا “أبا بشار”. عوضنا الله في المربع الذهبي من بنيك الذين سيحملون الراية من بعدك، راية بيروت قلب الوطن والشارع الوطني للأمة، ولو على حساب الوسط التجاري وشركته العقارية… الأممية!