للمرة الألف، يقول الرئيس أنور السادات – بعظمة لسانه، على حد التعبير المصري الدارج – إنه لا يجد ما يشكو منه، محلياً وعربياً ودولياً، سوى مشكلة واحدة وحيدة وبسيطة جداً اسمها : مشكلة معمر القذافي.
وللمرة الألف، يقول الرئيس أنور السادات – بعظمة لسانه – إن حكام العرب جميعاً معه، من شيخ الفجيرة إلى صاحب عجمان ، إلى حاكم رأس الخيمة وملحقاتها (!)، إلى السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور، ثم كبارهم أصحاب التيجان والصولجان ابتداء بالملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود (ثم خلفه خالد) وانتهاء بأمير المؤمنين الحسن الثاني في المغرب، مروراً بالمجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة في تونس، ومعهم شيخ العود في الكويت، وطوال العمل في أبو ظبي والبحرين وقطر،
يضاف إليهم الإمبراطور محمد رضا بهلوي،شاهنشاه إيرانوبعض الخليج العربي والجزر الثلاث أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى،
ويضاف إليهم، بالطبع، العزيز هنري، والمناضل من أجل السلام جيرالد فورد، ومعظم حكام أوروبا الغربية، وأصحاب المسؤولية في المجتمع الدولي،
وللمرة الألف، يقول الرئيس أنور السادات – بعظمة لسانه – إن كل ما طلبه وأراده تحقق له: الفلوس جاءته أكياساً خلف أكياس من أهل النفط والشهامة والجود من ذرية حاتم الطائي في الجزئرة والخليج،
والطائرات المقاتلة شقت طريقها إلى سماء مصر أسراباً بعد أسراب، من الجزائروالعراق (إضافة إلى طائرات الميراج الليبية التي كانت، من قبل ذلك كله، في مصر وبتصرفها)،
والدبابات سيرت إلى أرض مصر أرتالاً خلف أرتال، من المغرب، من الجزائرن وحتى من تونس (إضافة إلى سلاح المدرعات الليبي الذي انتقل إلى مصر بالكامل، تقريباً)،
والنفط جاءه منه ما يفيض عن حاجته، حتى بعدما “شح” معمر القذافي فأوقف المدد، هب أصحاب النخوة في أرجاءأخرى، وبينهم شاه إيران، يوردون إلى مصرحاجتها وأزيد حتى هتفت بهم: كفى، وقاكم الله شر العوز!
أما الجند فقد أوفدت إلى أرض المعركة ألوية منه وكتائب وفصائل، فيها كل من يتقن فن الحرب، وكل من أعد لها ودرب على أنواع الأسلحة المختلفة، وكنت ترى السوداني والمغربي والكويتي جنباً إلى جنب مع الفلسطيني والسعودي والتونسي الخ..
والسؤال الأول الذي يطرح نفسه بعد سماع هذه الشهادة – الوثيقة بين الرئيس السادات نفسه، هو: إذا كان هذا الذي قيل عن المساعدات صحيحاً، فلماذا لم يتواز الذي تحقق، في الحرب ثم خاصة بعدها، بهذا الذي بذل لها وفيها وبعدها؟!
لماذا لم تتحرر الأرض المحتلة كلها؟ ولماذا لم تسد ثغرة الدفرسوار، ولماذا لم تستمر الحرب طالما إن دايان كان يبكي ملتاعاً هزيمته وهزيمة إسرائيل؟!
إذا كان ما يقال عن المساعدات الملكية والمشيخية (والإمبراطورية) صحيحاً، فلماذا، إذن، تغرق مصر في هذا البحر المخيف من المشاكل والأزمات الخانقة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً وحتى أمنياً؟!
إن رئيس جمهورية مصر يقول، جهاراً نهاراً وعبر شبكة الاذاعات المصرية، معززة بإذاعة لبنان من بيروت، إن العرب لم يردوا له طلباً، وإنهم أعطوه ما طلب وأكثر، وإنهم لم يتصرفوا في أمر يخص “القضية” إلا بتنسيق معه وبتوجيه منه..
وهكذا ينتفي التقصير العربي، أو البخل العربي، وتتوهج أوسمة الامتنان والشكر والتقدير المصرية على صدور الشيوخ والأمراء وطوال العمر والملوك والرؤساء العرب، الأموات منهم والأحياء (باستثناء واحد وحيد هو معمر القذافي)،
ومع انتفاء هذا التقصير “الخارجي” تتبدى صورة التقصير “الداخلي” صريحة وواضحة ومفزعة، وتصبح المساءلة واجبة والحساب ضرورة قومية: وحدكم، إذن، المسؤولون عما أصاب مصر، يا حكام مصر، وما أصاب بعدها الأمة العربية كلها في مختلف أقطارها.
أخذتم ولم تعطوا، سوعدتم ولم تقاتلوا، فوضتم بالتصرف فلم يتحقق على أيديكم إلا استمرار الاحتلال في ظل حالة جديدة من “اللاسلم واللاحرب” وإلا تفاقم المشاكل والأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في الداخل، وإلا تردي الوضع العربي، برمته، على الصعيد القومي.
ومن الطبيعي والحتمي أن تنعكس هذه النتائج على المستقبل العربي:
فحركة الثورة العربية قد انتكست ودخلت في صراع مرير مع قوى الردة،
والمقاومة الفلسطينية حملت فوق طاقتها فصورت وكأنها المسؤولة عن التحرر والتحرير وبناء الغد الأفضل على امتداد الوطن العربي المنداح بين المحيط والخليج (وهذه مؤامرة عليها وليست خدمة لها)…
وسوريا ارتكبت ، بتأثير الخوف من خطر أن تستفرد في مواجهة أوسع مما تسمح قدراتها،
واهتزت المقاييس فإذا أعتى قلاع الرجعية هي الممتدح عطاؤها وتحسسها بواجبها القومي،
وإذا المشبوهون والمتعاملون علناً مع القوى الاستعمارية والإمبريالية يتقدمون الصفوف لتسلم براءات الاخلاص والوفاء والوطنية!
وإذا الفرق بين ملك ورئيس جمهورية ليس أكثر من مسألة بروتوكولية،
وإذا الحدود تمحي تماماً بين الأنظمة الوطنية – التقدمية والأنظمة الأخرى التي كانت على الدوام معادية للتقدم والتقدميين.
إن الرئيس أنور السادات حر، بالطبع، في تقويمه للناس والمواقف والأوضاع بمقدار ما يتصل الأمر بشخصه أو بفكره المجرد، أما عندما يتعلق الأمر بالأمة العربية، حاضرها ومستقبلها ومصيرها، فمن واجب كل عربي أن يشارك في التقويم، وأن يتدخل لتصحيح التقويم المغلوط.
وبعد الذي قاله الرئيس السادات أمس، وأمس الأول، وطوال الشهور الماضية، يبدو وكأن معمرالقذافي شخصياً هو “الشرير” وسط مجموعة من الأخيار الأبرار الأطهار من حكام الدول العربية،
فالقذافي، شكك، وقصر في تقديم المساعدات، بل امتنع عن تقديمها عندما اشتدت الحاجة إليها، ومنن، وحاول شراء مصر بألف مليون جنيه، وأهان شعب مصر وأساء معاملة المصريين في أثناء الحرب!! وأضعف الروح المعنوية لجيشها، وأغلب الظن أنه – معمرالقذافي شخصياً – تسبب في حدوث ثغرة الدفرسوار التي غيرت نتيجة حرب رمضان المجيدة!!
أي إن القذافي وحده في كفة، ومن تبقى من حكام العرب في كفة أخرى (كفة مساندة مصر ودعمها ومساعدتها بكل غال ونفيس).. ومع هذا، وفي ضوء الواقع المادي الملموس، ترجح كفة القذافي!
إن الرئيس السادات، بهذا المنطق، يعطي القذافي قوة ليست له، وقدرة على التأثير لا يملكها، من أجل أن يستعدي عليه – من ثم – شعب مصر، والأمة العربية كلها: فالقذافي وحده هو المسؤول عن المآسي والنكبات والأزمات، وأما الانتصارات والخبرات والحلول السعيدة فيتوزع أسهم الفضل فيها – وبالتساوي – سائر الحكام.
وليت كان في هذا الحل لمشاكل مصر وأزماتها وفي الطليعة منها الأزمة الوطنية المتمثلة باستمرار الاحتلال الإسرائيلي لجزء عزيز من التراب الوطني المصري، إضافة إلى الأراضي العربية الأخرى، إذن لطالبنا معمر القذافي بالاستقالة أو التواري ولفعل من أجل عزة مصر وكرامتها وخير شعبها،
لكن الأمر غير ذلك تماماً،
وأول من يعرف هذه الحقيقة هو شعب مصر ذاتها، إذ أنه – في خاتمة المطاف – هو من يدفع الثمن من دمه ورزقه وطموحاته المشروعة إلى المستقبل اللائق بتاريخه وقدراته وحسه الحضاري المرهف.
والكلمة من قبل ومن بعد لشعب مصر الصابر، الصامد، والعظيم…
ولا نعتقد أن كلمة شعب مصر تقول بالتمديد.. تمديد الرئاسات أو التمديد لقوات الأمم المتحدة الشاهدة على استمرار حالة “اللاسلم واللاحرب” على ضفاف القناة.. المفتوحة!