انقضى زمن البساطة وحسم الاشكالات والمشكلات بالمواقف المبدئية والبديهيات المصكوكة شعارات.
بفضل “الزلزال العراقي” انشطر موقفك موقفين، إذ وقع الانفصال المطلق بين الهدف – الطموح وبين المسلك العملي، وقامت فجوة عميقة بين الشعار المقدس وبين “التطبيقات” العملية التي تدفعك إلى حافة الكفر.
وأنت مطالب، بعد سماع كل نشرة أخبار، بمحاولة ترميم موقفك وإنقاذ ما يمكنك إنقاذه من أمنياتك ومكونات وجدانك، وعقلك أحياناً، لأن التناقض مطلق بين ما تسمع وبين ما ترى، ثم بين هذا كله وبين ما كنت تريد،
… علماً بأن في الوقائع الكثير مما يدغدغ التمنيات الكسيحة في صدرك، ويهيئ لك إنك أخيراً على وشك أن تخرج من قبر العجز إلى دائرة الفعل.
وفي لحظات معينة تهوم من حولك أطياف انتصارات مرتجاة ومفتقدة، وتفاوض نفسك للقبول بها مع التجاوز عن “نظافة” الوسائل والأداة، وقبل أن تحسم أمرك يحدث ما يغيب تلك الأطياف وتبقى وحيداً مع حيرتك وغربتك عن هذا الذي يجري برغم إنه يعنيك بذاتك أكثر مما يعني أي إنسان في الدنيا بدءاً بصدام حسين وانتهاء بجورج بوش.
والحقيقة إن ثمة خلطاً قائماً بين معيارين للحساب:
*هناك حسابك أنت مع صدام حسين بالمنطق القومي العربي،
*وهناك حساب آخر معه (بل معك أنت) بالمنطق الغربي (الأميركي – الإسرائيلي).
ومعظم المأزق ناتج عن الخلط والتداخل بين هذين الحسابين، أو هذين المعيارين،
وأخطر ما يهزك شخصياً إن هذا الخلط قائم فعلاً ومن الصعب تجنبه أو وضع التخوم في مواقعها الصحيحة بحيث يصير الحق بيناً والحرام بيناً وينتفي الايهام والابهام وينحسر الرماد كاشفاً الأبيض والأسود.
كيف؟!
لعلك صدمت مراراً بأن تسمع عربياً يستخدم، في مجال معارضة صدام حسين، مفردات المنطق الأجنبي (الغربي – الأميركي – الإسرائيلي).
كما صدمك ويصدمك بالقطع أن يستغل الغرب الحوار الذي كان يفترض أن يكون داخلياً، أي الحوار العربي- العربي، لإدانتك وجميع العرب من خلال خطأ صدام حسين، وبغض النظر عما تحقق بفضله من مصالح للغرب، ودائماً على حساب العرب.
وبصراحة فإن صدام حسين قد اختلس في حالات كثيرة منطق المواطن العربي العادي، واستخدمه سلاحاً فعالاً في معركته المفتوحة على مخاطر ومحن لا حصر لها.
وبالمقابل فإن الغرب قد استغل وقوع صدام في فخه فانبرى يقاتل المواطن العربي العادي وشعاراته الأصلية، مرجئاً منازلة صدام أو مفاوضته حتى يفرغ (الغرب) من تحقيق انتصار تاريخي على الأمة العربية وطموحاتها جميعاً.
ولنتوقف أمام بعض الأمثلة المحددة، وأبرزها: الوحدة.
يقول صدام إنه استعاد الكويت معيداً الفرع إلى الأصل ومصححاً ذلك الخطأ التاريخي الذي وقع فيه رفاقه وأساتذته الكبار (بداية الستينات).
وبمعزل عن المحاسبة بمفعول رجعي، فإن ما نجم عن قرار النظام العراقي يصعب أن يصنف تحقيقاً لحلم قومي عزيز المنال كالوحدة.
*في الحساب العربي: أن المسلك العراقي قد أساء إلى فكرة الوحدة وشوهها،
** وفي الحساب الغربي: إنها فرصة للقضاء على حلم الوحدة نهائياً، بالإفادة من أخطاء صدام.
*في الحساب العربي: إن الوحدة يحققها أهلها، أصحاب المصلحة فيها، وإنها لا تتم بقرار فوقي ولا هي تتم بقوة السلاح. ومن الصعب على مواطن عربي أن يتصور وحدة مع الكويت لم يسمع فيها صوت مواطن عربي واحد من الكويت. ومع التسليم بأن أفراد الأسرة الحاكمة وربما الغالبية من تجار الكويت و”يهودها” لا يريدون الوحدة بل هم يقاتلون ضدها، فإن الغياب المطلق للكويتيين، ولو كعراقيين، يستوقف ويثير الشكوك في طبيعة ما تحقق.
كانت في الكويت معارضة سياسية للأسرة الحاكمة، وكان فيها ناقمون، بل وكان فيها “إرهابيون” حسب المفهوم الغربي، ولقد حاول هؤلاء أكثر من مرة اغتيال “الأمير” تعبيراً عن رفضهم لنظامه.
وملفت أن يرفض الخارجون بالأمس من سجون جابر الأحمد الكويتي الوحدة مع صدام حسين العراقي، بل وأن يكونوا الأقسى في إدانة “الغزو” و”الاحتلال” والمناداة بالمقاومة المسلحة ضد “الأصل”.
لقد ساوى صدام حسين بين صباح الأحمد الصباح وذريته الصالحة وبين الدكتور أحمد الخطيب والنفيسي والنيباري والربعي، بين أحمد السعدون وبين عبد العزيز المساعيد، بين سامي المنيس وبين أحمد جار الله، أي بين رموز الحركة الوطنية والقومية في الكويت وبين دعاة الإقليمية وتاليه الأسرة الحاكمة والمروجين للانحراف والخيانة والتبعية المطلقة للأجنبي.
لقد وضعهم في الموقع ذاته، فالكل الآن شريد طريد، ولقد خسر المناضل منهم بيته ولم يربح حلمه القومي في الوحدة، في حين إن “الأمير” لم يخسر إلا ما كان سيربحه من أموال الأمة إضافة إلى ما سبق أن اختلسه في الماضي.
*وفي الحساب العربي إن السلوك العراقي أضر أضراراً هائلاً بفكرة الوحدة وبجمهورها،
ففي بيوت مئات الألوف من العرب اليوم مآس مفجعة يسهل تحويل ضحاياها وذويهم إلى جيش إقليمي إضافي مستعد لمقاتلة حلم الوحدة بالسلاح،
في لبنان.. بالذات، وفي مصر، كما في الأردن والمغرب والسودان وأقطار أخرى، ينتظم جمهور “العائدين” من الكويت في أضخم تظاهرة شعبية ضد الوحدة طالما إن “رمزها” صدام حسين ونموذجها عودة الفرع الكويتي إلى الأصل العراقي.
لقد فقد مئات الألوف من فقراء العرب جني العمر، بل العمر كله، بالماضي والحاضر والمستقبل، على هامش المحنة القومية التي كان عنوانها “الوحدة”!!
لم يتوقف صدام حسين لحظة واحدة أمام مصير مليون من فقراء العرب (أي خمسة أضعاف “الشعب” الكويتي”)، ولم يوجه إليهم كلمة واحدة تطمئنهم إلى حقوقهم الطكبيعية، أي إلى حصيلة عرق جباههم وعمل زنودهم السمراء.
وإذا كانت الأسرة الحاكمة الكويتية قد استغلت حاجة هؤلاء الفقراء إلى العمل، و”أكلت” بعض حقوقهم، وأذلتهم أحياناً ومست كراماتهم الشخصية، فإن النظام العراقي قد أكمل إنجاز آل الصباح بأن دمر مستقبل هؤلاء الفقراء عبر أشنع عملية إذلال للجماهير تتناقلها وسائل الأعلام كفضيحة عربية من الدرجة الأولى.
*وفي الحساب العربي: فإن الوحدة لخير العرب ولرفعتهم ولعزتهم ولتحقيق المساواة والعدالة في ما بينهم، ولإعادة توزيع الثروة بحيث ينصف الفقراء، وليست بين صورتها أبداً هذه التي نراها في الصحف وعلى شاشات التلفزيون يومياً للمشردين أو للهاربين أوللمطرودين وكلهم أفقر من الفقر وكلهم يسامون سوء العذاب على الحدود الجديدة لدولة الوحدة العتيدة.
** أما في الحساب الغربي: فإن هذا الرصيد الممتاز من العداء المستجد لفكرة الوحدة سيكون سلاحاً فعالاً في الإجهاز على الحلم القومي العظيم، خصوصاً وإنه يصدر الآن عن جمهور الفقراء. أي عن الشارع، وليس عن القصور والأسر الحاكمة والمتنعمة بها نهبته من خيرات الأمة.
أليس مأساوياً أن يتحول الفقير المصري أو اللبناني أو المغربي إلى متعاطف مع السفهاء من شيوخ النفط العربي بفعل الاذلال والإفقار والامتهان الذي نالوه على يد من يدعي تحقيق أحلامهم في الوحدة والحرية والاشتراكية؟!
برغم ذلك فما زال المواطن العربي يتوقع أن يسمع من الحركة الوطنية في الكويت نقداً ذاتياً لتجربتها السياسية وموقفاً واضحاً من الأسرة الحاكمة ونظامها، بحيث تساعد على بلورة موقف قومي من هذا الحدث – الزلزال الذي استولد المزيد من الغموض والالتباس والتداخل حتى ضاعت الحدود أو كادت تضيع بين الحاكم والمحكوم، وبين الفقير والفقير (المصري مثلاً أو اللبناني والعراقي).
وليس مهرباً صحياً أن ننادي بإسقاط جميع الأنظمة… فالمهم أن نعرف من أين وكيف نبدأ في محاولة الخروج من ليل المحنة القومية الجديدة.
*في الحساب العربي: أنت ليست مع هذا النوع “العراقي” من الوحدة.
*وفي الحساب الغربي: الوحدة بالمطلق جريمة وتهدد مستقبل التقدم الإنساني، والعرب ليسوا مؤهلين لإقامة دولة الوحدة، والوحدة عند العرب لا تعني غير الحرب الأهلية.
*وفي الحساب العربي: أنت ترفض القسر حرصاً على الوحدة،
*وفي الحساب الغربي: تحشد الأساطيل والجيوش لحماية العرب من بعضهم البعض، ولحماية أنظمتهم بمجموعها من خطر الوحدة… أي يسخر القسر لضرب حلم الوحدة في صدر كل عربي.
وفي الحسابات جميعأً يتراجع شعار الوحدة، ومع رفض الضم تكتسب الانفصالية والإقليمية النفطية المزيد من المبررات وأسباب القوة وبينها هذا الحشد اللجب من الأساطيل والعساكر بالكمامات.
*وفي الحساب العربي: فما أعظم خسارتك، إذا بقيت العروش وذهبت الأرض والحرية والكرامة والثروة القومية ومعها شعاراتك المقدسة!
*** وبدلاً من شعار التحرير تكاد تقبل اليوم، ولو بصعوبة، واقع الاحتلال بذريعة الحماية.
*** وبدلاً من الأنظمة غير الشعبية والتافهة والضعيفة، قد تجد نفسك مواجهاً بأنظمة تحققت فيها “الوحدة” بين الحكام المرفوضين والمواطنين الرافضين، بسبب من “وحدة” المعاملة العراقية للحاكم والمحكوم، الظالم والمظلوم، الناهب والمنهوب، في تجربة “الوحدة” المأساوية مع الكويت!
*وفي الحساب العربي: فإن معظم مآخذ صدام حسين على حكام الخليج، وهي صحيحة، تنطبق عليه وعلى نظامه هو بالذات.
لقد كان دخله مثل دخلهم بالمليارات، ولم نره يخص فقراء مصر أو السودان أو الجزائر أو المغرب (حتى لا نقول الأردن ولبنان أو سوريا بالذات) بالمليارات التي يمكن أن تنهض بهم أو تساعد دولهم على مواجهة الضغوط الأميركية للإخضاع لمنطق السلام الإسرائيلي.
بل هو كان مثلهم يقدم الرشاوى لبعض المنتفعين والمرتزقة وباعة المواقف بالقطعة، لكي يستقطب جمهوراً من “الهتيفة” في هذا القطر العربي أو ذاك (باستغلال الفقر أولاً وأخيراً).
على إن هذا لا يعني أبداً أن تلك الأنظمة البالية والشحيحة والمتجبرة تستحق الحياة،
ولعل المأخذ الأساسي على صدام حسين إنه ربما تسبب في إطالة عمر تلك الأنظمة من خلال حربه عليها بأسلحة أفسدها سوء الاستخدام!
** أما في الحساب الغربي: فإن تلك الأنظمة العاجزة فعلاً، بدليل إنها طلبت حمايته وأعطته كل شيء بغير حساب، لا تستحق من الحياة (ومن الثروة) إلا ما يعطيها، وهو كان بحاجة إلى مثل صدام حسين لكي تتاح له فرصة العودة بالسلاح إلى منابع الذهب والبقاء فيها وأخذ الأمة رهينة… ومن هنا فقد أعطاه صدام ما قصر عنه حلفاؤه العلنيون.
*وفي الحساب العربي : فإننا جميعأً رهائن، يحتجز بعضنا البعض الآخر، والغرب الأميركي يحتجزنا جميعاً.
** أما في الحساب الغربي : فإن العرب قد قدموا الدليل على صحة كل ما كان يقوله فيهم من إنهم إرهابيون وقتلة وسفاحون وقبائل لا هم عرفوا الدولة ولا هم بلغوا مرتبة الأمة، ومن هنا فلا بد من وضع اليد عليهم وإقامة هيئة وصاية “دولية” بوصفهم قاصرين وخطرين على السلام العالمي وأسباب التقدم الإنساني.
مرة أخرى: تعاقب الضحية وتعلق النياشين على صدر الجاني.
… والكويت، على أهميتها كدولة عظمى، لا تستحق مثل هذا الثمن!
ومن “وحدها” ليس وحدوياً ولا هو بمحرر ولا هو بعدو للإمبريالية التي “شرفتنا” الآن شخصياً ونزلت بين ظهرانينا بحجة مواجهة أطماع صدام.
وليست أطماع صدام الموضوع، بل هو مصير الأمة، وكلنا معنيون بهذا المصير، ومن موقع الضحية مع الأسف الشديد.
لذا ستبقى الكويت نقطة البداية، وما بعدها نتائج، حتى وإن كانت النتائج اخطر مليون مرة من البداية الكويتية الخاطئة.