ثبت، مرة أخرى، وبالدليل الحسي القاطع ، أن لبنان يمكن أن يستمر وينمو و”يرجع يتعمر” من دون حكم أو حكومة أو مؤسسات “قابضة” سواء اتخذت طابع الشركات المساهمة أم المحدودة المسؤولية أم تلك التي يملكها فرد أحد لا شريك له ولا شبيه.
لا يتصل الأمر فقط بحيوية اللبنانيين وشطاراتهم وميلهم الغريزي إلى المعارضة والاعتراض، واهتمامهم بالتفاصيل أكثر من اهتمامهم بالأساسيات التي لا يملكون أصلاً حق القرار فيها، بغض النظر عن ادعاءاتهم العنترية،
بل إنه يتصل بطبيعة أوضاع “الحكم” الذي دخل مرحلة “تصريف الأعمال” بدليل هذه الحروب المستعمرة بين “مؤسساته” تحت شعارات مختلفة ولكن بهدف محدد دائماً: من جاء أجله وسيذهب أثره بذهابه، ومن هو الباقي والمؤثر في ما سيكون، أي في “العهد الجديد” وجمهوريته “الثالثة”؟!
هل تبدل على اللبنانيين شيء في فترة ما بين الاستقالتين، السابقة أو اللاحقة، أو السابقة للاحقة واللاحقة للسابقة؟!
هل نقص شيء مما ينغص عليهم حياتهم في الفترة التي تم فيها تعطيل مجلس الوزراء، ووضعت “قوة فصل” بينه وبين مجلس النواب، منعاً للاشتباك ووأداً للفتنة في مهدها، واستنقاذاً للمؤسسات التي ذهبت هيبتها وبقي مضيّعوها، وحفظاً لما تبقى من ملامح “الجمهورية” ونظامها الديموقراطي البرلماني ولو تم ذلك عن طريق “النصيحة” الناضجة بلهجة الأمر ومضمونه؟!
كل ما حدث أن بعض الصفقات قد تأخر إنجازها، أو فاحت رائحتها فصرف النظر عنها مؤقتاً، وتسبب ذلك في نشوب معارك إضافية اختلط فيها الحكوميون بالمعارضين حتى بات مستحيلاً الفصل بينهم عبر الاستدلال بمواقعهم أو بمواقفهم أو بمنافعهم المتداخلة كأشجار العليق!
ولأن المؤسسات مقصرة أو مشلولة فقد تعذر منع الفضائح والارتكابات والتجاوزات من الوصول إلى القضاء، ثم إلى المنتديات والأوساط الاقتصادية الدولية، لاسيما وقد لعلعت بها الإذاعات “العالمية” وطيرتها وكالات الأنباء العالمية إلى أربع رياح الأرض.
“اختلاف الحكام نعمة للأمة”.
واختلال المؤسسات في لبنان إنعاش للحياة السياسية، وبعث للديموقراطية من رقادها، إذ يضطر أهل الحكم اللجوء إلى ما يسمى “الرأي العام”، ويكشفون بعض ما كانوا يخفونه عن الناس أو يتسترون عليه باسم الحرص على أمن النظام والسلم الأهلي والمجتمع المدني واجتثاث التراث الحربي الذي أنهى “الجمهورية الأولى” واستولد “الجمهورية الثانية” بعملية قيصرية وعلى عجل منع التثبت من قابليتها للحياة!
طبعاً كل التعابير الواردة أعلاه كاريكاتورية في مضمونها وإن كانت تسمياتها الرسمية معتمدة ويتم تدريسها في الإدارات والدواوين والصالونات على حد سواء!
“سيري فعين الله ترعاك”،
هكذا هي حال البلاد البلا داخل، والبلا حكم، والبلا مؤسسات ولو على مستوى العمل الشعبي والنقابي والاجتماعي، على فخامة التسميات والشكليات التي تذكر بما ترمز إليه ولكنها لا تستحضره.
و”الهدنة” القائمة قد خدمت كثيراً في بلورة هذه الحقيقة الفاجعة وإبرازها: فهي قد أتاحت للناس فرصة التقاط أنفاسهم وإعادة حساباتهم ومحاولة تحديد خسائرهم وترتيب أمورهم لزمن قد يطول في تيه الأحلام الضائعة والآمال الخائبة والأوهام المنكسرة على صخرة الواقع القاسي.
فالناس مرتاحون تماماً إلى “اكتشاف” أنهم بلا حكم ولا مؤسسات، وأن غياب أو ضمور أدوار أهل الحكم في حياتهم اليومية يجنبهم المزيد من الخسائر في الرزق كما في الكرامة، في الحاضر البائس كما في المستقبل المخيف بغموضه.
… ولعل هذا الواقع هو أهم مصدر للثقة بلبنان، في اقتصاده كما في سياسته،
ترى هل نحتاج لكل ذلك الحشد من “القادة” و”المسؤولين” بمن فيهم من نواب ووزراء وسماسرة ومقاولين، وبكل تلك الكلفة العالية التي نتكبدها على حساب الخبز، من أجل إلغاء الحكم وجمهوريته؟!
أليس من طريقة أرخص للحكم على الحكم؟