بهدوء نزل حرف النون من بيته إلى الشارع. ودع صفوف الكتب والمجلات والصحف، ودع الأقلام والورق وكلماته الأحلى: كريم وياسمين ورضا، ودع كذلك النقطة التي في القلب، ثم تأبط فكرة جديدة ومضى في طريقه إلى طلابه في الجامعة ليهتف بواحدهم، كما في يوم: إقرأ.
“إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق”…
إقرأ. قرأ، يقرأ، قراءة فهو قارئ. إذن فهو إنسان.
أدار حرف النون عينيه في الشارع، آنسه ضجيج الحياة اليومية. الزحام دليل عافية. تبادل التحية مع الوجوه الأليفة التي كان يتعلم منها القراءة والكتابة كل يوم. إقرأ. اقرأز إقرأ. رفع بصره إلى الشمس. ما أعظم هذا الكتاب المفتوح لمن يريد أن يقرأ فيعرف. غمزته الشمس بشعاع مذنب فاستبشر: ستكون فكرته الجديدة إضاءة جديدة لزاوية ما يزال يحاصرها الظلام. إقرأ. اقهر الظلام بالقراءة. إقرأ.
مرق وميض الطلقة الأولى مرتعشاً، ثم توالى الوميض دفقات من نور تقتحم العتمة ثم تنطفئ فيها، وحين أدركه الدوي المهيب كان قد اختزن في عينيه وفي ذهنه وفي قلبه من النور ما يكفي كتابه الأخير. كتابه الأخطر والأهم والأقدس والأكمل، واكتملت الدائرة حول النقطة، في قلب النون فصارت النقطة مشعالاً وصار مهدي عامل ملمحاً من ملامح المستقبل الذي بشر به حسن حمدان.
أغلب الظن إنه قالها وهو يمضي ليسبح في “فضاء النون”: إقرأ. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلب. علم الإنسان ما لم يعلم.
إقرأ. اقرأ الوشم المدمى على الحروب المجرّحة، ذلك هو طريق اليقين.
إقرأ: قتل يقتل قتلاً فهو قاتل وجمعها جمع تكسير: قتلة. عرّفها. قل: القتلة. حددهم، النفظ أسماءهم واحداً واحداً. لا تخف. إنهم أتفه من أن يواجهوا نقطة في حرف. إنهم أجبن من أن يواجهوا كلمة. إنهم يقتلون الأبجدية. إنهم يبقرون بطون الكلمات ليغتالوا أطفالك وغدك، إنهم يسملون عيون الأفكار حتى نموت حيث يحتجزوننا ومعنا المستقبل رهائن الجهل والجهالة والجاهلية. إنهم يحطمون المصابيح حتى لا يتبقى من النور ما يضيء وجه القاتل فلا يقرأه أحد.
إقرأ. إقرأ ولا تخف. اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم.
علم بالقلم. علم بالقلم. علم بالقلم.
احم قلمك، قلمك علمُك. علمك أملك. أملك الثورة. الثورة قلم. الثورة اقرأ. اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم. عن الثورة إقرأ. قلمك الثورة. الثورة قلمك. ثورة القلم. علم بالقلم. غيّر بالقلم. كبّر بالقلم. عمّر بالقلم. عظم بالقلم. قبل القلم حيواناً كان الإنسان، ثم قرأ فصار خلاقاً وإبداعاً صار. نوراً على نور صار. خرق الحجب، اقتحم الفضاء، فضاء النون وفضاء الكون، كبر على الكون. صار أعظم من في الكون، أعظم ما في الكون، وصار الكون به عظيماً.
اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم…
امتشق قلمك دماً. امتشق دمك قلماً وكتاباً. امتشق قلمك شمساً.
ليكن قلمك السيف والراية والأغنية. ليكن قلمك الجبين العالي. ليكن عالياً كما جبل عامل. ليكن ندياً برائحة أرض حاروف فيه. ليكن قلمك المؤذن وآذان الفجر المندى بالورد المعطر بشذى دمك. ليكن قلمك صادقاً، حاراً، رقيقاً كالأوف. ثم اقرأ واقرأ واقرأ حتى يتهاوى القاتل صريح الظلام الذي يستوطنه ويرتزق من محاولة تعميمه.
إقرأ حتى الشهادة. اكتب حتى الشهادة. اسفح دمك سطوراً. اجمع دمك كتاباً. بل اتركه يهطل شلالاً. لتكن أعمالك الكاملة بالأحمر القاني. بالأحمر، بالأحمر، بالأحمر. كأعمال أبي ذر، كأعمال علي بن أبي طالب. كأعمال غسان كنفاني. كأعمال كمال ناصر. كأعمال حسين مروة.
نهج البلاغة: إقرأ. نهج البلاغة: اكتب. نهج البلاغة: قلها ولا تخف.
إقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم.
كتب يكتب كتابة فهو كاتب. اكتب! اشهر قلمك واكتب. اشهر دمك واكتب. اشهر تاريخك واكتب. اشهر كتابك واكتب.
“ن. والقلم وما يسطرون. مالكم كيف تحكمون. أم لكم كتاب فيه تدريسون”…
اكتب. اقرأ. كن كلمة، كن سطراً، كن قصيدة، دع السطر يستولد سطوراً. دعم الكلمات الحبلى بالأفكار البكر تتفجر وعياً، إدراكاً، معرفة، دعها تشرق شموساً. دعا تزهر نجوماً وأقماراً وأحلاماً كباراً تهز بحركتها عروش الطغاة وتزلزل الأرض بالسفاحين وعبيد العتم ومرتزقة أعداء الحياة.
الحياة كلمة. الحياة حلم. الحياة فكرة. الحياة: إقرأ.
“إقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلب، علم الإنسان ما لم يعلم”…
اقرأ تعلم، تهاوى الجلادون واندثروا، لكن كلمات المظلومين هي الباقية، وبكلمات المظلومين عرفنا تاريخ أهل الظلم والظلام، وعرف مهدي عامل كيف يكون الغد اللائق بكرامة الإنسان. وعنه كتب، ولمهدي عامل وسائر العامليين قرأنا فعرفنا.
جنوباً در، جنوباً سر، وانتصر..
اليوم بدأت رحلة العودة إلى جبل عامل يا أستاذ الفلسفة، يا الكاتب القارئ المثقل بالمعرفة يا حسن الحاج عبد الله حمدان.
اليوم لم تعد “مبعداً” بين المبعدين، لقد “فتحت” حاروف بدمك. واتخذت الندبة طريقها إلى وجه جبل عامل لتستقر فيه، علامة تبقى في موقع الشاهد على هذا العصر، عصر تعيم الجهل والأمية وعبادة الأصنام واحتقار الإنسان.
اقرأ باسم ربك، وهم يقولون كل لحظة: الويل لكل قارئ، الويل لكل كاتب، القارئ والكاتب في النار. ثم يستعجلون “ذهابهما” إلى النار فيصطنعون لهم على الأرض ناراً تذهب بهم وبكلماتهم والأقلام والكتب التي فيها يدرسون.
ن. والقلم وما يسطرون.
وعلى كل حاجز يفتشونك بدقة. فإذا ضبطوا قلماً أو ريشة أو كتاباً فلك العذاب الأليم. أما إذا ضبطوا فكرة فمصيرك جهنم وبئس المصير.
“كلا، إن الإنسان ليطغى”..
ولقد آن أن يوضع لهذا الطغيان حد.
آن أن نمتشق دمنا، جميعاً، لنحمي جبل عامل بعدما فقدنا مهدي عامل ومئات العامليين،
آن أن نمتشق دمنا، والأقلام جميعاً لنحمي بيروت بعدما أفقدوها وحدتها ودورها القومي وفرادتها وحولوها إلى مجرد ساحة للأوبئة والأمراض واليباس والإرهاب الفكري.
آن أن نحمي ما تبقى من نوارتنا ومن حلم الوطن، وأن نحمي أيضاً دور الجيش العربي السوري الذي جاء ليساهم في إنهاء الحرب ضد الإنسان والمستقبل في لبنان وسائر أنحاء الوطن العربي.
آن أن نتحرك لحماية تاريخ جبل عامل، وحماية إنسانه من أعداء الداخل الذين يتفوقون في القسوة على أعداء الخارج،
آن أن نحمي كفاءاتنا الأهم والأبرز والأنفع للناس، فلا نسمح بسفح دمائهم رخيصة بأيدي أعداء الشمس، أعداء الثورة الحق، أعداء الفكرة والكلمة والقلم، أعداء الإنسان.
إنهم يغتالون من وما عجزت إسرائيل ومن معها عن قتله أو تشويهه أو حرفه عن طريق النضال من أجل التحرر والحرية، من أجل العروبة والتقدم، من أجل الغد الأفضل.
إنهم يغتالون الكلمة، الفكرة، الرأي والراية الهادية،
إنهم يغتالون النور،
إنهم يغتالون حقنا في العلم والمعرفة، حقنا في الحرية والكرامة، حقنا في بيوتنا وفي قرانا وفي وطن له هويته الواضحة ودوره في خدمة أهداف نضال أمته.
إنهم يغتالون عروبتنا كما صاغها جهاد آبائنا وأجدادنا، عبر المعاناة والمقاومة المتصلة قروناً وقروناً، حتى أمكننا أن نتصل بروح العصر.
إنهم يغتالون أصالتنا، هويتنا، علاقتنا بأرضنا وبتاريخنا ويصطنعون لنا تاريخاً آخر مزوراً وممسوخاً ومثقلاً بوصمات العار والضلال ووثنيات الجاهلية.
إقرأ، واصل قراءتك حتى والرصاص ينهمر عليك فيرشم صدرك بالأوسمة.
اكتب. تابع الكتابة بمداد من دمك إذا ما أبعدوا عنك الريشة والمحبرة.
ليكن صوتك السيف والراية، اللحن والأغنية، الوردة والعطر، الفكرة والوهج وشذى زهر الليمون الذي سيواكب نعش حرف النون الذاهب ليستقر نبضاً في قلب حبل عامل الخافق أبداً بحب الحرية والأحرار عشاق الكلمة وصاغتها شعراً وفكراً.
ولتقل أبداً: اقرأ، اقرأ، اقرأ،
ولتقل أبداً: اكتب، اكتب، اكتب،
وليكن دمك الكتاب والرسالة والأرض والكرامة للإنسان في جبل عامل، في بيروت، في لبنان كله، في الوطن العربي المختزن حلم الثورة.. الثورة بالحرف والكلمة والفكرة البكر والممتشق دمه من أجل أن يقول الكلمة المنبثقة من قلب العتمة نجمة صبح جديد.