تأخذنا رهبة اللقاء الأول يا صيدا، تجتاحنا رعشة الشوق البكر، وتهرب الكلمات التي طالما أعددنا ورددنا حتى حفظناها عن ظهر قلب استعداداً لهذه اللحظة – الوعد والبركة، فلا تصدر إلا حمحمة مشبعة بالأسى والندم والاعتذار، وأيضاً بقوة العهد المكين بألا يكون، بعد، فراق أبداً.
إنها المرة الأولى بعد محنة الألف يوم، إلا قليلاً، نعود إلى أهلنا في صيدا والجنوب، وبعض الإقليم، ويعودون إلينا، وكلانا يستشعر شيئاً من الغربة، ويعيد فحص ما يلبس وما سوف يقول ويفعل، حتى لا ينتقص من رونق اللقيا التي استقرت، منذ حين في مهجع الأمنيات، والأحلام السنية، والتي بها سيبدأ تاريخنا الجديد.
هم يعودون إلينا مضمخين بشذى زهر الليمون ودوارات الأكيدنيا وعبق زهر اللوز وعطر الشهادة، يقتدمون بهاماتهم المرفوعة، والشمس قد استوطنت الجبين العالي بعد كل ما كان منهم وكل ما جرى لهم وعليهم، وفي الصدر معين من الحكمة لا ينضب لكثرة ما تراكم فيه من خبرات وتجارب ومرارات وأحزان القهر اليومي.
لقد بلغوا سن الرشد، فكل جرحه في يمينه أو في الصدر، وجدران بيته مرشوشة بأوسمة المجد، أو هي تكونت نصباً فريداً لصمود فريد.
أما نحن فيا لخجلنا من لحظة ما بعد العناق، وانفضاح ما نحمل إليهم من علامات المرض والوهن والضياع وافتقاد اليقين.
هم عائدون بمعرفة دقيقة للعدو، جيشه، مخابراته والتكتيك، وحلفاء العدو وأنصاره والعملاء.
ونحن نعود إليهم، وقد اخترع كل منا عدواً لنفسه من بيته ذاته. من الشقة المقابلة، أو العمارة المقابلة، حسب خريطة توزع أبناء الطوائف والمذاهب، ونسينا الإصلاح والبيان – الميثاق الجديد!! وقبعنا ننتظر أن ينتهي تفريخ اللجان من اللجان لنعرف مصير المراسيم الاشتراعية المفخخة، وأن تفرغ اللجان الأمنية المحلية المتفرعة عن اللجان الأمنية العليا، المتفرعة عن حكومة الوحدة الوطنية إياها، من مناقشات فتح المعابر والطرق والزواريب الاستراتيجية، والفتح يكون بالتراضي أو لا يكون أبداً، ويبقى مشروع الوطن مجرد أرخبيل من الطوائف والمذاهق والفئات والجهات، مقطعة أوصاله، مفككة عراه، لا يربط بين أطرافه رابط إلا نتائج المضاربات بالدولار وقوت العيال ومصير البلاد.
تأخذنا رهبة اللقاء الأول يا صيدا.. خصوصاً وقد فرضت لغة جديدة في التخاطب، وعلمتنا ومعك حواضر جبل عامل والدساكر، والقرى وصولاً إلى الناقورة أن بسطاء الناس هم وحدهم أصحاب القدرة على إعادة صياغة التاريخ، وإنه بقدر ما يتم التحرر من الحكم والحاكم والمتحكم، وبمقدار ما تكون السلطة في يد الشعب، يكون النصر بهياً ورائعاً وكاملاً.. فالفلاح هو من يقدس الأرض ويفتديها بروحه، فلذات الأكباد، وليس الإقطاعي، والصبية المشققة كفها من شك أوراق التبغ، والمنداة “قمطتها” بعطر زهر الليمون هي التي تقيم جسدها اليانع سداً دون الشجرة المباركة والشتلة واهبة الخير.. والصياد هو من يحمي البحر والسمك والساحل وليس أصحاب شركة “بروتيين”.
“البكوات” فيك صاروا منا، وهذا نزيه البزري مثل وعلم، صار عظيماً وجليلاً كأولئك النفر الغر الميامين البلا أسماء الذين منحونا بدمائهم هذا العيد. لقد صار لاسمه رنين كلمة الجهاد. وكذلك أسماء الصامدين جميعاً الشهداء منهم والأحياء. دهش الفعل الألقاب ومحاها، ولم يبق من الشخص إلا ما أعطى، أما من فرح بأنه أخذ اللقب الفخم فقد خسر ما كان له وما كان له أعظم وأبقى.
وتأخذنا رهبة اللقاء الأول يا صيدا لأن العدو حاول وما زال يحاول أن يبتزنا بك وبالجنوب. لقد نفخ آذاننا بتخويفنا من نتائج الانسحاب حتى ننسى كفاحك والجهاد اليومي “ونقتنع” أن جلاءه إنما جاء منة منه ومنحة تفحنا إياها من موقع القوة العظمى في المنطقة، وبقصد أن ننشغل عنه فننسى أنه باق فوق البعض من أرضنا ونقتتل في ما بيننا على اللاشي لنصنع له “السلام” الذي يريد، ولنجعل من أنفسنا حراس حدود لمستوطنات الجليل المحتل.
… الآن بعض الحكم حاول ابتزازنا بك، يا صيدا، مشيعاً أن تحررك والجنوب سيكون كارثة على الوحدة الوطنية لأن الفتنة ستأتي منك ومن أهلك الذين ما زاغت أبصارهم لحظة، ولا أخطأوا الهدف مرة، برغم كل الضغوط والتعديات والاستفزازات المتعمدة لكي يستحيل الجهاد حروباً بين الطوائف والمذاهب من أبناء الدين الواحد في الوطن الواحد. لقد تصرف بعض الحكم وكأنه خائف من شعبه أكثر من خوفه من الاحتلال. وساعده أن بعض الأنظمة العربية “بما في ذلك النظام البلاد أرض” قد أعلى راية حقوق الطائفة على حقوق الوطن والمواطن، وهكذا تخوفنا من أن تكون المواجهة معك يا صيدا ومع الجنوب لطمس حقيقة أن تلك الأنظمة لم تساعدكم في حربكم المقدسة ضد العدو القومي الأوحد لهذه الأمة المجيدة.
وتأخذنا رهبة اللقاء الأول، يا صيدا، لأن البعض يزيد خوفه منك ومن الجنوب على خوفه عليك وعليه.
إنهم يريدون منع طابور الشهداء من الوصول إلى بيروت ورايتهم راية القضية والأمة. يقيمون الحواجز لشذى زهر الليمون ولعبق العنبر المشتعل نجوماً صفراء على طول الطريق بين صيدا وصور.
إنهم يريدون منع إرادة التحرير وروح الرفض وزخم التغيير من أن تندفع شمالاً، بحيث تفسد عليهم لعبة الكراسي الموسيقية والصراع على الأسواق المهدمة وأحزمة البؤس التي كوفئت على انتفاضتها المجيدة بإفقار أهلها أكثر وأكثر حتى ليكاد واحدهم يخرج على الناس شاهراً سيفه والبغضاء!
إنهم يريدون منع الهواء النقي المنعش الصحي من أن يصلنا ويطرد المرض وادران المستنقع المذهبي الذي ناكد نغطس فيه وكلما زاد ضيقنا زاد أملهم بعودتنا إلى بيت الطاعة صاغرين.
اليوم عيد ميلادك يا صيدا، ومعك الجنوب، الميلاد الأول بعد الألف، وهديتنا إليك متواضعة: هذه الرسالة تتشرف بأن تنفتح عليها عيونك التي يعشش فيها فجرنا الجديد. فمع جلاء العدو يمكن لك أن تستعيدي عاداتك الحميمة، وأن تعودي إلى قراءة الصحيفة مع قهوة الصباح.
… و”بهية” قاعدة الآن على المصطبة، رائحتها رائحة الأرض، والرأس مكلل بـ “قمطة” فوق المنديل، و”القلشين” من فوق السراويل بالكشكش ليزيد على الستر ستراً، ومن خلفها قصص الحبق والفل والمردكوش والعطر وكف مريم، وعلى الصينية فطور الحاج صالح: حبات زيتون أخضر حبلى بزيت الخير، وشيء من الخبيزة والعلت والحميضة والصعتر بالبصل والحامض.. وقاسم على وشك أن يصل عائداً من “المنفى”، من بيروت التي كانت بعيدة، بينها وبين “بهية” ألف حاجز وحاجز “شي بروس وشي بلاروس”، ياخالتي!
وروعة اللقاء تملأ دنيا “بهية” بالاضطراب.. وسلفاً ها هو الدمع يغشي العينين، فلا تكادان تميزان الملامح، ثم تشرق عبر ضباب اللوعة واللهفة والشوق تلك الابتسامة المشعة بالألق والأمل والآخذة بالاتساع حتى لتغطي الوجه كله، الدنيا كلها، ومن الصدر يتصاعد الوجيب خبباً ثم تصهل خيول الأرض جميعاً وتجمح نحو سدرة المنتهى.
يا بهية.. والأرض تبقى بوراً ولاتباع فبيع الأرض خيانة، وهجرها خيانة، وكيف تكون حياة بلا أرض؟ الأرض هي الحياة، هي السلام، هي المستقبل، هي نحن. وفاطمة مخضبة الكفين بالحنة تنتظر الفارس الذي استل دمه وفجره فيهم فقتلهم بحبه العظيم للأرض والناس وبساتين الليمون ودورات الأكيدنيا.
يا “بهية” وزهر اللون مشبع بمشحات حمراء ندية. لقد رشق الشهيد دمه هنا فإذا الهواء ضوع عبير، وإذا العلم ذو النجمة الزرقاء مزق منثورة فوقزهر الطيون. المجد للأحمر، المجد للأخضر، المجد للأبيض، المجد للأسود، المجد للون الأرض.. لون وجه الشهيد.
يا “بهية” لقد جاء العيد
فكل عام وأنت بخير. صيدا بخير. الجنوب بخير، بيروت بخير. الجبل بخير. البقاع بخير. الشمال بخير. الوطن بخير.
وتحية إليك أيها العائد إلينا ليكون للعيد اسماً ووجهاً.. واسمك العيد يا مصطفى، ووجهك المحروق هو صورة المجد وعنوانه، وهو يميننا المعظم لتحرير كل المحتل من أرضنا وبناء الوطن الذي يستحقه هؤلاء الذين هزموا القوة التي لا تهزم.