تلقى رئيس تحرير “السفير” رداً مطولاً من مكتب الأمين العام للجبهة القومية الإسلامية، الأمين العام للمؤتمر الشعبي العربي والإسلامي، في السودان، الدكتور حسن الترابي، على افتتاحية كان كتبها عن تسليم كارلوس إلى فرنسا قبل أكثر من أسبوعين.
هنا رد مكتب الدكتور الترابي، ورد عليه:
“السيد / طلال سلمان
رئيس تحرير جريدة “السفير” – الموقر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أوردتم في افتتاحية “السفير” العدد رقم 6859 بتاريخ 18/8/94 كلمة تحت عنوان “من هو الإرهابي الحقيقي كارلوس أم الترابي”. يسرنا في المكتب الإعلامي للدكتور حسن الترابي أن نوافيكم بالرد التالي للتكرم بنشره عملاً بمبدأ حق الرد.
أيقط (كارلوس) أرواحاً كثيرة وأشباحاً كثيرة وأوهاماً كثيرة.. فعاد رئيس تحرير “السفير” الأستاذ (طلال سلمان) على السيرة الأولى يوزع الألقاب والأحكام في يقين صوفي مطلق وتلكم عادة عربية ولدت وسارت في العالم العربي كله بالعدل ثم ماتت. كما مات كارلوس. وها هي اليوم تبعث على يدي الصحافي الكبير في كلمة “السفير” الافتتاحية (من هو الإرهابي الحقيقي كارلوس؟ الخاطف أم المخطوف؟ العامل لقضية أمن فنذر عمره (حتى ولو اعتبر ضالاً ومخطئاً في أسلوبه) أم العامل لحساب غيره بالأجر؟).
انتهت أسئلة الصحافي الهمام. والجديد فقط أن مصطلح (إسلامي) قد فرض نفسه في موجة تاريخية (حتمية) عنوة واقتداراً.. فأضافه الأستاذ الكبير إلى صكوك الأحكام بعد تقدمي ورجعي وثوري وغصلاحي، وأممي وقومي ووصولي ومتفان ومادي ومثالي. نعم مات (كارلوس) و(لقد انتهى زمان كارلوس فانتهى معه) كما يقول الأستاذ طلال ولكن بعد كل هذه السنوات فإن الصحافة العربية لم تنس شيئاً ولم تتعلم شيئاً.
وكيف والتاريخ ما يزال يصنعه فرد ويقرره فرد ويحوله فرد في رأيكبار الصحافيين شأن الأستاذ طلال فإن كارلوس مات ولكنه قبل ذلك (قد فضح رياء إسلامية الداعية الأعظم الدكتور حسن الترابي، وكشف زيف ادعاءاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفضح تبعيته المطلقة للغرب ولأبشع ما في الغرب) كل هذا فعله كارلوس الميت المقتول؟!..
إن الأستاذ طلال – معذور – خاصة فإن التقدمية كلما مات فيها قيصر خلفه ابن قيصر والحرب تقوم فيها لأن ابن ميمون قتل ابن شمسون والمكتب السياسي للحزب الديموقراطي يرأسه سلمان طبلية وعضوية حسان طبلية وسارة طبلية، حتى الصحافة إذا مات فوزي فإن رئيس التحرير سيكون سمية فوزي الزوجة أو البنت المهم أن تكون البلد (مزروعة عشائر) كما تغني فيروز وهذه هي الديموقراطية التي يذرف عليها الأستاذ طلال دموع التماسيح (من هو الإرهابي الحقيقي؟ هل هو الذي ذهب زمانه وانتهى معه دوره وعز عليه حتى الملجأ في انتظار الموت أم المتسنم سدة السلطة بعدما اغتصبها بالدبابة والاعتقالات وقهر الشعب وتزوير إرادته وفرض الظلم عليه باسم الدين الحنيف).
إن (أبشع ما في العرب) يا حضرة الصحافي الكبير هو الذي ظل يحدث في العالم العربي طيلة قرن من الزمان، وهو أن يقلع الوطن من جذوره الحضارية والفكرية والثقافية ليزرع في ثقافة أخرى بنظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ثم يصادر عن مرجعيته الفكرية فتنشأ فيه أحزاب وجماعات وأفكار على غير هدى أو على هدى الأجنبي وفلسفته، ثم تتناقض جذرياً في المناهج وتتصارع نهائياً في الأسلوب فيتحوّل معها الوطن على ساحة حرب تنتهي إلى زوال الوطن بزوال هويته. وهذا الأمر الذي يحدث اليوم في عملية التطبيع مع إسرائيل. وعندئذ لا يجدي أن يسجل الأستاذ اعتراضه على أسلوب جماعات (كارلوس) وفي كل الحالات لسنا من المؤمنين بأسلوبه ولا من القائلين بأن ينوب فرد أفراد عن الحركة الشعبية ونضالها الطبيعي في بلادها. إن أحكام الأستاذ نفسها لا تعني الكثير. فهي تصدر عن غير منهج وعن غير مرجعية.
إن الحكومة السودانية لا تحتاج أن تراجع أطروحات الشيخ الترابي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن تذهب إليه طالبة للفتوى. هل يجوز إخراج كارلوس من السودان أم لا يجوز؟ لكنها شأن أي حكومة مسؤولة ينبغي أن تواجه مسؤوليتها كدولة تجاه شعبها: من كارلوس؟
وكيف جاء إلى السودان؟ وماذا يعني بقاؤه في أراضيها؟ وهي كذلك حكومة تصدر عن مرجعية فكرية خالدة متجردة. ولذلك تسألنفسها هل تنطبق عليه شروط المستجير كما جاء في الآية الكريمة (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه)، لكن (كارلوس) صديق قديم عند أنظمة عربية كثيرة ليس من بينها السودان، وصديق متفاهم مع أنظمة أخرى ليس من بينها السودان. و(مناضل أممي) لدى أحزاب عربية ليس فيها حزب سوداني، ولكن عندما (انتهى دوره وعز عليه الملجأ في انتظار الموت) – كما تفضل بوصفه الصحافي الكبير – قام نظام صديق له بوضعه على حدود بلد لنظام صديق له، ولكن عندما اكتشفه أعاده إلى حدود البلد الذي تسلل منه، ثم تجددت المحاولة بالطائرة إلى عاصمة بلد صديق جداً له، فأعادته بطائرته بعد أن اكتشفته ساعة وصوله – وعندما تكررت قصة الطائرة قام النظام الصديق جداً – بإعادته بعد تصوير جوازه المزور الذي استعمله في المرحلة الخائبة ثم وزعه على الصحف ووكالات الأنباء عقاباً له وللدولة التي جاء منها، ثم قام ذلك البلد بتسريبه بنجاح إلى بلد غير صديق له حيث أقام في بيت المال والعيال حتى اكتشفه ذلك البلد وهو مقبل على أيام التطويع والتطبيع، فقام بدفعه إلى السودان. ولكن السودان لم يكشفه لحظة وصوله – فهو لا يعرفه ولا عهد له بجوازاته المزورة، وعاش حياته في السودان تحت سمع وبصر أجهزة مخابرات كثيرة منها الجهاز الأعظم للدولة الصديقة جداً للدولة التي دفعته إلى السودان، وهي تصيح كل يوم (نملك أدلة دامغة على إيواء السودان للإرهابيين).
إن كارلوس لا تنطبق عليه شروط المستجير مهما تأولت لصالحه. ولكن الحكومة السودانية أعطته الفرصة كاملة ليخرج إلى حيث يريد، وأمهلته الأشهر الطوال بعد الأشهر الطوال، وتوسلت إلى البلد الذي دفعه إلى السودان بأوليائه ليعود إليها ريثما يجد له ملجأ أو مغارات.. ولكن (كارلوس) وأصدقاءه كانوا لا يرون في السودان إلا مزبلة لنفايات لا يهم أن تدان وتحاصر وتتهم فلاقوا جزاءهم العادل إذ عبثوا واستهتروا بمصلحة أمة ودولة ليست منهم في شيء ولم تكن معهم على شيء.
لكن هموم الشيخ حسن الترابي والتي حملها في صمود أربعين عاماً ودخل معها السجن سبع سنوات ودخل فيها الوزارة والأحزاب وتعرّض من أجلها لمحاولات الاغتيال.. وإن أطروحاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية أن يعود بالأمة الإسلامية إلى أصالتها الفكرية والحضارية وأن يجمع الأمة على أرضية مشتركة من الأهداف الكبرى وأن يبعث الحياة بتجديد الفقه الإسلامي وأصوله التي تحكم مناهج الدولة والمجتمع كما ترى هي هموم كبيرة، أكبر من دخول كارلوس أو خروجه مهما ضخمته وسائل الأعلام التي تأسست على الإثارة السطحية والنجومية والتي ستطوي صفحته قريباً عندما يلوح في الأفق نجم جديد أكثر إثارة بجدته، وهذا أمر بديهي يعرفه الصحافي الكبير، لكن الأمراض القديمة غلابة إذا تهيأت ظروفها من جديد.
لقد فتح السودان أبوابه للناس جميعاً وجعل أشقاءه العرب في مرتبة أخص من غيرهم، ذلك أن قوانين السودان تأسست على رؤية وفلسفة تؤمن بالتواصل الحي المفتوح بين الشعوب، وتؤمن كذلك أن الحضارة العربية والإسلامية ولدت في هذا التفاعل المتصل بين شعوب الأمة، ولذلك يدخل العرب إليه دون إجراءات التأشيرة التي أضحت تتعقد وتتعسر كل يوم علاى طالبها بين شعوب الأمة العربية، ولكن هذا التسامح المؤسس على إيمان وقناعة لن يكون مدخلاً لاستغفال السودان ورمي النفايات على أرضه، وأن السودان كذلك لن يسلم مجاهداً أو مناضلاً أو مظلوماً لجأ إليه واستجار به وهو في سبيل ذلك يقبل الصمود والتحدي أمام دعيات الغرب المستبد التي تصمه بالأصولية والإرهاب – وإن كان الثمن المادي البخس هو رجاء السودان لقبضه أضعافاً مضاعفة ساعة أزمة الخليج وإبان حربه ولكن آثر أن يستقل بموقفه – حتى هذه الساعة التي يكتب فيها هذا الكلام.
ويمكن أن يحتسب لكارلوس (أنه حقق في الطريق إلى السجن إنجازه الأعظم أنه قدّم الترابي بصورته الحقيقية كاشفاً هذا النمط من الإسلاميي).
أرجو أن يكتب لنا الأستاذ طلال سلمان قائمة بإنجازات (كارلوس في افتتاحية “السفير”).