تقول الولايات المتحدة الأميركية، وهي أعظم الدولتين العظميين كما يسميها خبراء القوة، إن الجماهيرية العربية الليبية (3 ملايين نسمة، مع مواليد السنة) قد عكرت عليها مياه البحر الأبيض المتوسط (وهو يبعد عن اليابسة الأميركية أكثر من ثلاثة آلاف ميل)… فهل يجوز أو يمكن أن يكذب أحد دولة عظمى على قمة السلطة فيها رئيس تاريخي مثل رونالد ريغان؟!
وتقول الولايات المتحدة إنها قصفت ساحل مدينة سرت الليبية لأن ثمة قواعد للصواريخ فيها قد تضايق حركة الأسطول السادس وهو يجوب البحار والمحيطات دفاعاً عن الديمقراطية وحريات الشعوب وحقها في السيادة على أراضيها… والصواريخ الليبية تهدد السلام العالمي وتمثل قمة الإرهاب إذ كيف مع وجودها يمكن أن يكون البحر المتوسط بحيرة سلام تسبح فيها بحرية البطات الأميركية السمينة وكيف يمكن أن تكون السماء ملعباً حراً للطائرات الحربية الإسرائيلية (وهي أيضاً أميركية) في انطلاقها لضرب الفلسطينيين في تونس، مثلاً، أو غيرهم من العصاة الخارجين على قانون العصر الإسرائيلي – الأميركي؟!
وتقول الولايات المتحدة الأميركية إن يدها يجب أن تكون طليقة في أربع رياح الأرض، بوصفها زعيمة العالم الحر والمسؤولة عن أمن الكون وسلامته من أخطار الثورات وحركات التغيير والمعارضة التي تزعزع الاستقرار وتستولد أعمال العنف والشغب والتمرد وغير ذلك من أشكال الخروج على أولي الأمر الواجبة طاعتهم في كل زمان ومكان!
وغداً ستقول الولايات المتحدة، بلسان رئيسها ووزرائها وحلفائها والأعوان إنها انتصرت على الجماهيرية وعلى بطل الإرهاب العالمي العقيد معمر القذافي، وإنها لقنته وأمثاله من العصاة والمفسدين في الأرض درساً لن ينسوه،
ثم ستترك لإسرائيل أن تكمل ما بدأته مسلحة بزاد التجربة الأميركية ونتائجها الملموسة التي قد يكون بينها، مثلاً، اكتشاف سر الصواريخ السوفياتية “سام 5” و”سام 2″، ذبذباتها ومداها وفعاليتها ومدى دقتها ودور التوجيه الأرضي وكفاءته الخ…
على إن الدولة العظمى بإمكاناتها وقدراتها الهائلة، على كل مستوى وصعيد، تغفل – كعادة العظماء – بعض الأمور التفصيلية والبسيطة ومنها:
*إن مواجهة كالتي حدثت خلال اليومين الماضيين، والتي قد تتطور نحو الأسوأ ، هي معركة ربحتها الجماهيرية العربية الليبية وقائدها معمر القذافي فعلاً بمجرد وقوعها، بل حتى من قبل أن تقع.
فشرف للقذافي أن يقال عنه أنه واجه أساطيل القوة الأقوى، بإمكانات شعبه الصغير عديده والمتواضعة قدراته، والعظيم فقط بإيمانه.
ولقد تحقق للقذافي ولبلاده مثل هذا الشرف، وبات، منذ لحظة انفجار أول طلقة أميركية، بطلاً قومياً في عيون أمته، ورائداً للعديد من شعوب العالم المضطهدة والمقهورة في مشارف الأرض ومغاربها.
ولا يهم أن تكون الوقائع العسكرية البحتة قد أظهرت القذافي وكأنه الخاسر ميدانياً… فالنصر هنا كما في أي معركة أخرى يكون بالمحصلة النهائية سياسياً ومعنوياً، ولن يطالبن أحد معمر القذافي وشعب الجماهيرية أن يلحقا الهزيمة العسكرية الماحقة بالولايات المتحدة وأساطيلها.
*إن هذه المعركة المحدودة، عسكرياً، ستكون لها نتائجها السياسية غير المحدودة، وهي تشابه إلى حد ما معركة جمال عبد الناصر ومصر العظيمة، العام 1956، وهي المعركة التي اتخذ التاريخ بعدها سياقاً آخر، فاندثرت دولتان عظميان (فرنسا وبريطانيا)، وظهرت إلى الوجود قوة كامنة هي الأمة العربية، وقوة كامنة أكبر هي مجموعة دول العالم الثالث.
*إن هذه المواجهة ستسرّع التفاعلات التي تمور بها الأرض العربية بدءاً بمصر التي لم تسمع حكومتها لكن شعبها العظيم سمع بالتأكيد دوي انفجارات الصواريخ الأميركية التي تستهدف كرامة العرب جميعاً، كل عربي وكل العرب، وسيادتهم وحقهم في أرضهم وفي الحرية وفي صنع غدهم الأفضل.
كذلك فلا بد أن شعب تونس قد سمع ورأى وعرف باليقين ما كان موضع تشكيك من قبل الذين لا يريدون أن يروا أو يرفضون أن يروا ما يمس “تراث” العم سام في “الدفاع” عن الحريات والشعوب المقهورة!
ومثله شعب الجزائر، وشعب المغرب، برغم أن ملكه مشغول البال بهموم أخرى مثل “إقناع” إسرائيل، مباشرة، بالحق العربي، والاستماع إلى ما يقنع بالحق الإسرائيلي مما يملكه قادتها والحاكمون فيها.
أما شعب السودان فقد جرب وعرف بالملموس ، ودفع الثمن باهظاً من دمه وهناءة عيشه ووحدة أرضه وما يزال يعرف ويدفع!
وأما نحن في المشرق العربي، وفي لبنان على وجه الخصوص الذي ما تزال أرضه تحمل ندوباً خلفتها، قذائف نيوجرسي فنرى في المواجهة الأميركية مع الجماهيرية وشعبها وثورتها وقائدها مقدمة لما تدبره إسرائيل لنا عموماً، ولسوريا أساساً باعتبارها العمود الفقري لصمود اللبنانيين والفلسطينيين والأردنيين إضافة إلى شعبها الذي يدفع غالياً كلفة الصمود في مواجهة العدو القومي.
إن الولايات المتحدة الأميركية ، ومعها إسرائيل ، تخطط لأن تصطنع لنا ربيعاً دامياً يمكن توصيفه بـ “ربيع الموت”!
وهي تقاتلنا على امتداد الأرض العربية، وتقاتل حتى الذين لا يرغبون في قتالها، لأنها على ما يبدو تريد القضاء الكامل والمطلق على روح التمرد والرفض والاعتراض حتى لا نقول الثورة ولو كاحتمال مستقبلي.
ويبدو أيضاً إنها متعجلة، إذ تتصرف وكان المهلة المتاحة أمامها محدودة،
وهكذا فقد بدأت الهجوم العام، وعلى الجبهات جميعاً، تاركة لإسرائيل أن تسدد الضربة القاتلة… كي ينفتح في ما بعد باب “التسوية” ، أي باب الاستسلام العربي بالشروط الإسرائيلية – الأميركية.
وليس مجازاً أو افتراضاً متجنياً أن تربط التطورات التي شهدناها في لبنان ونشهدها، منذ بداية العام الحالي بهذا الهجوم الأميركي الشامل المهيئ والمعد للضربة الإسرائيلية القاضية.
كذلك فليس مجازاً أو تمنياً عاجزاً أن نتوقع أن ينتهي الهجوم بعكس المطلوب أو المأمول منه،
فدرس العدوان الثلاثي سنة 1956 والذي غدا قانوناً، يفيد بأن “المنتصر” عسكرياً يخرج في النهاية مهزوماً، والمهزوم عسكرياً يخرج في النهاية مكللاً بنصر سياسي غير محدودة آثاره المجيدة.
وسرت هي بورسعيدنا الجديدة، وخليجها خليج النصر سيسمى بعد الآن.
أما الضربة الإسرائيلية، وهي متوقعة في كل يوم، فستظل أعجز من أن تغير حقائق التاريخ والجغرافيا ومنطق الأشياء،
ولعلها تفيدنا إذ تنقذنا وتخرجنا من المستنقع الذي أغرقنا فيه الهرب من القتال في الميدان الصح!