تظل “القضية” أهم من “المحامي” حتى لو كان الأكفأ،
ولقد وفقت الكويت في اختيار موفدها إلى دمشق وبيروت: فوزير أعلامها ذرب اللسان، وبارع، وذو تجربة دبلوماسية متميزة تجعله خبيراً في الرد على السؤال المحرج بالسؤال، وفناناً في حسن التخلص برفع الكلفة وإضفاء جو “عائلي” يُحرج السائل في لياقته أو حُسن الضيافة.
و”القضية” هي هوية الكويت، واستطراداً هوية الخليج الذي يقاتل العرب خارجه دفاعاً عن هويته العربية، في حين يهرب “أهله” من تحديد هويته حتى لا يكون للعرب (الآخرين) دور فيه، واستطراداً حصة في خيراته (التي صادرها المحررون بالاحتلال، إلا ما يكفي لإقامة أود أهل البلاد الأصليين!).
ومع أن وزير أعلام الكويت أعلن – من موقعه الرسمي – أن حكومته تميز بين شعب العراق (الجار، الباقي إلى الأبد جاراً) وبين حاكمه المهووس بالسلطة والحروب، إلا أنه لم يستطع إقناع سامعيه بأن الكويت قد غادرت مناخ “الحرب” وتخففت من أثقال المرارات والأحقاد والعداوات الناجمة عنها،
وهي حرب مؤذية للكويت ومدمرة لانتماء الكويتيين لأرضهم،
فالعداء لمعظم العرب بحجة أن أنظمتهم كانت موالية أو متعاطفة مع صدام لا يُمكن لعروبة الكوتيين ولا يعزز أسباب حماية الكويت.
كذلك فإن الانسياق مع الرغبة في الانتقام والثأر من العراقيين، بسبب غزو الكويت، يجعل الكويتيين (موضوعياً) حلفاء لصدام حسين ضد شعبه المبتلى به، والذي دفع من دمه ورزقه وهناءة عيشه أكثر بكثير مما دفع الكويتيون.
إن الهرب من العروبة أو القومية إلى “الخليجية” هو عقاب للذات وليس للآخرين، فـ “الخليجية” ليست هوية ولن تكون.. وفي ظلها زادت وستزيد أكثر فأكثر المشاعر الكيانية فتصير عنصرية، ويمكن لأي زائر عابر لأقطار الخليج أن يلمس عمق الحساسية المتفجرة بين كل “خليجي” و”الخليجي” الآخر.
وليس من باب المصادفة أن كل قمة خليجية تحتاج بل تفرض سلسلة من المصالحات أو الهدنات الاضطرارية لإنقاذ المظاهر والشكل، أي صورة الاجتماع ليس إلا… في انتظار القمة العبثية التالية!
إن الهرب من الحقيقة، من لون البشرة كما من المصير الواحد، لا يؤدي إلا إلى نوع من الانتحار في الأوهام.
فـ “الهوية” الخليجية لا تكتمل إلا بالحماية الأجنبية، التي تسارع بالتبرع لحماية “الأخوة النفطيين” من أشقائهم الفقراء، كما من جيرانهم الأقوياء (مرة يكون الخطر عراقياً، ومرات يكون إيرانياً، وفي الطبعات الحديثة سيكون سعودياً)..
أما “الكيانية” ذات المنحى العنصري فلا تتأكد ولا تتعمق إلا في ظل القواعد الأجنبية والاحتلال الأميركي المباشر، ولو باسم التحرير.
لا تستطيع الكويت ولا هو من مصلحة أهليها أن يستمر الاشتباك قائماً بينها وبين معظم المواطنين العرب بسبب حماقة صدام حسين والمنتفعين بحروبه وغزواته الظالمة والفاشلة إلى حد الفضيحة،
فالكويت ستبقى حيث هي. لن يمكن سحبها عبر البحار والمحيطات لتصبح الولاية الثانية والخمسين في الولايات المتحدة الأميركية، ولن يمكن حذف العراق وشطبه من الحاضر ولاسيما من المستقبل.
وسيظل العرب عموماً أرأف بالكويت والكويتيين قطعاً من أي أجنبي آخر يأتي لتحريرها بفلوسها… ومن فلوسها.
لقد بنيت الكويت بالسواعد العربية، وبعرق الوجوه السمراء من مصريين وفلسطينيين ولبنانيين وسوريين وسودانيين وعراقيين وعُمانيين وأردنيين ومغاربة وتوانسة الخ،
وحين خرج منها الإنكليز لم يخلفوا فيها مبنى واحداً يليق بأميرها أو بمجلس الأمة التأسيسي الذي اضطر للاجتماع في دار البلدية،
قليلاً من الرأفة بالكويت التي تعيش أزمة مصيرية حادة لا تساعد في علاجها تلك الصرخات المشبوهة التي تملأ الأفق فجوراً وهي تصور الحل في خروج الكويت من جلدها، وتحرضها على الانتحار نكاية بصدام حسين.
ونأمل أن يكون الوزير الكويتي قد أفاد من تجربة اللبنانيين العنيدة في الخروج من الحرب (التي كانت في بعض جوانبها ضد الذات)، مع أنها لم تؤد بعد إلى إقامة دولة السلم الأهلي العتيدة، في انتظار أن ينجزوا بالديموقراطية هذه المهمة المقدسة.