آخر قرار أميركي: ممنوع الابتسام في أربع رياح الأرض، وفي المنطقة العربية بالذات، لمناسبة مقتل الرئيس أنور السادات، وكل من يتجرأ فيبتهج لغيابه ولا ينكس الأعلام (والرأس) حزناً فهو إنما يتحدى الولايات المتحدة الأميركية واساطيلها وقوة انتشارها السريع، المستنفرة الآن!
والقرار يأتي تتويجاً لسلسلة من التصرفات التي قالت عبرها واشنطن أن الرصاص الذي قتل السادات إنما وجه إليها هي، وإن ما حدث بكل ما ترتب وسيترتب عليه “قضية أميركية بحث داخلية” لا شأن لأحد غيرها بها، بما في ذلك إسرائيل ذاتها،
حتى بالمعنى “الفني” كانت واشنطن مصدر الأخبار جميعاً، عن الإصابة ثم الوفاة. عن هوية منفذي العملية، عن الرئيس المقبل وصولاً إلى تحديد مسار العهد القديم – الجديد في مصر، انطلاقاً من أن القرار قرار واشنطن ولا أحد غيرها، ولا حتى القاهرة.
وهكذا تلاقى الرجال الأربعة الذين تعاقبوا على البيت الأبيض منذ أن باع السادات مصر (بشعبها وجيشها وحرب العبور) إلى الأميركيين، وتشاورا، فيما كان رجال الكونغرس والبنتاغون والخارجية والمخابرات المركزية يوالون إمدادهم بتقديراتهم وتحليلاتهم والمعلومات في كيفية مواجهة “الكارثة القومية” وما قد ينتج عنها، ثم طار ثلاثة منهم ومعهم وزير خارجية ريغان ومهندس صفقة البيع الأصلي هنري كيسنجر إلى القاهرة ليطمئنوا إلى سلامة تطبيقات قرارهم على الأرض… المصرية.
وبالمعنى السياسي فقد وجهت واشنطن، ومنذ اللحظة الأولى، تحذيراً إلى العالم كله، وأساساً إلى شعب مصر والأمة العربية، بأنها لم تسمح لأي كان بأن يتدخل في ما حصل ويحصل في مصر، إلا إذا كان راغباً بمواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية.
بل لقد وصل الأمر إلى حد إعلان ريغان، بنفسه، ما مفاده أن مواقف واشنطن من الآخرين ستتحدد في ضوء ابتهاجهم بمقتل الرئيس السادات أو حزنهم عليه،
وبسبب “الابتهام المحرم” والمعاقب عليه، منعت واشنطن عبد العاطي العبيدي، أمين اللجنة الشعبية للمكتب الشعبي للاتصال الخارجي، من السفر إليها لحضور مؤتمر يعقده فيها اتحاد المؤسسات العربية في المغتربات (فياراب).
وليس الحدث في منع هذا المسؤول الليبي البارز من الوصول إلى واشنطن والتحدث أمام مؤتمر عربي، فيها، بل في حيثيات المنع كما أعلنها ناطق رسمي أميركي: “لأن رئيسه أبدى ابتهاجه لمقتل الرئيس السادات”.
على أن الأخطر هو مضمون التصرف الأميركي، بمجمله، وهو أن مصر موضوع عليها اليد من قبل الولايات المتحدة سواء أحكمها السادات أم حسني مبارك أم أي شخص آخر.
وحدها إسرائيل مقبولة كشريك مضارب لواشنطن، باعتبارها هي الأخرى محمية أميركية، ونقطة ارتكاز أميركية في الأرض العربية، ومركز حراسة أمامي للمصالح الأميركية وللاستراتيجية الأميركية في هذه الأرض الغنية بالثروات والحاكمة استراتيجياً والحبلى باحتمالات التغيير.
فمضمون القرار الأميركي (الإسرائيلي ، بالتالي) هو مصادرة إرادة شعب مصر، كلية، جهاراً نهاراً، مع التبجج بهذه المصادرة على الصعيد الدولي وكأنما مصر من أسلاب العدو أو من غنائم الحرب.
وما كان أسهل “صندوق الدين” وشروطه المهينة لمصر، بالقياس إلى ما تفرضه واشنطن اليوم على المصريين، ومعهم العرب جميعاً، مع فارق وحيد: إن العرب في هذه الأيام هم الدائنون وإن الولايات المتحدة هي المدين!
والعجيب الغريب إن معظم حكام العرب يتصرفون وكأنهم راضون وموافقون على مضمون التصرف الأميركي تجاه مصر وتجاههم، مع أن هذا الرضا يلغيهم، عملياً. إذا يكشف حقيقة كونهم مجرد أدوات تافهة لا يملكون من أمرهم شيئاً، بما في ذلك أمر بقائهم حكاماً أو زوالهم سواء بالإزاحة الهادئة أو بالرصاص القاتل.
إن سماء القاهرة تمطر هذه الأيام ورثة للفقيد، أتوا على عجل يحصرون أرثة ويمنعون سوء التصرف به ويثبتون وصايتهم الجبرية على الورثة الشرعيين وكأنهم مجموعة من الأطفال القاصرين.
وغداُ، سيكون المشهد مثيراً في القاهرة: سيمشي في الجنازة مجلس الوصاية (الأميركي أساساً، والمطعم بممثلين لسائر المتضررين كإسرائيل وبعض العالم الأميركي في ما وراء البحار والمحيطات) بينما شعب مصر بعيد عنها وعنهم لاهياً بأحزانه وهمومه الكبرى التي أورثه إياها الفقيد العالي، وفي طليعتها ما يمثله ويرمز إليه المشاركون في المآتم المعزول والممنوعة مشاركة المصريين فيه!
ستكون مصر في جانب، ومستعبدوها في الجانب الآخر يدبرون أمر اغتيالها هي، بكل تاريخها وحضارتها وعراقتها وأصالة شعبها العظيم.
وإذا كان المصريون (والعرب عموماً) لم يعرفوا بعد، بالضباط، من الذي قتل أنور السادات، فإنهم سيعرفون من الجنازة قتلة مصر والأمة العربية كلها، وقد اجتمعوا في صورة واحدة!
… وسيجدون في الطابور بعض “العرب”: جعفر نميري، زياد بري، قابوس أو من ينوب عنه.
كما سيلمحون أطياف الذي غابوا مكرهين ممن “أبهجهم” غياب السادات، ولكن لسبب مختلف: إذ أعفاهم من حرج التعاطي معه شخصياً بينما يمكنهم غيابه من أن يقولوا قوله ويكملوا “رسالته” ولا من يلوم!
بالطبع فإن مثل هذا الابتهاج لا يشمله قرار المنع الأميركي.
بل إن واشنطن هي أعظم المبتهجين، ومعها كل من سيظهر في الصورة التاريخية اليوم، بدءاً بمناحم بيغن وانتهاء بآخر برميل نفط في الوطن العربي الغني بالبراميل أكثر مما يجب!
فالابتهاج للقتلة وليس للمقتولين.
والأمة العربية – وحتى إشعار آخر – في عداد المقتولين.