نعم، إنها انتخابات،
ولكنها انتخابات الحرب،
أم ترانا قد نسينا وأسقطنا من الذاكرة، (وهذا ممكن)، ثم من الواقع، (وهذا مستحيل) أن المدافع قد توقفت فعلاً، ولكننا لم نغادر زمن الحرب وشعارات الحرب ورموز الحرب،
… وإننا بالسلب كما بالإيجاب نعيش – في حياتنا اليومية وفي السياسة كما في الاقتصاد، في الثقافة كما في اجتماعياتنا – مخلفات الحرب وترسباتها وتشوهاتها المفجة.
تأخذنا الغفلة، أحياناً، فنقفز من فوق الوقائع بالتمني، وهو غالباً كسيح، فنكتشف إننا محاصرون بها وإن بديلها – وحتى إشعار آخر – هو الفراغ… فما كان قبل الحرب لن يعود، وما سيكون بعدها لم يولد بعد، وسيتأخر ميلاده زمناً قد يطول.
كراهيتنا للحرب، بكل وقوعاتها، بلا حدود، ورغبتنا حارقة في نسيانها وتجاوز آلامنا وجراحنا الكثيرة والخطيرة والتي لما تلتئم،
ومن هنا فنحن نحدث قطعاً كاملاً وفجائياً وغير منطقي مع زمن الحرب، ومع تراث الحرب، ونفترض أنها كانت مجرد جملة معترضة، أو مجرد حادث عرضي، نخرج منه إلى استئناف حياتنا “الطبيعية” التي كانت لنا،
نحلم؟! لا، بل نتوهم. ونهرب بالتحليل الملوي العنق ليتناسب مع عواطفنا إلى آفاق مرتجاة لا تتطابق بأي وجه مع وقائع حياتنا اليومية، ولا يمكن أن تحملنا إليها تلك الوقائع الكالحة.
إننا نتعجل الخروج من الكابوس، فنغمض أعيننا – بل أن نفتحها – ونتخيل إنه قد سقط فعلاً وانتهى… ولشدة تعجلنا ولهفتنا إلى استعادة ما نعتبره طبيعياً ومن حقنا نغفل عن القيود التي تكبلنا، وهي قيود معظمها نفسي وبعضها “العملي” قاسي البرودة!
ثم إننا متطلبون جداً: فنحن نريد أن نفتح عيوننا، بعد إغماضها استدراراً للتمني الكسيح، لنجد أنفسنا في سويسرا!!! ونستهجن أن يناقشنا أحد في “حقنا” بأن تكون لنا “سويسرانا”!! ونسافر مع الأوهام فندعي إننا، قبل الحرب، كنا نموذجاً يحتذى للرقي والتحضر، لا علة فينا ولا عيب، إلا ما جاءت به أطماع الآخرين ومؤامرات الآخرين وحسد الآخرين الخ!!
نعم، إنها انتخابات،
وهي – بظروفها – ما كان يمكن أن تكون أفضل،
ولعلها تكاد تكون “أفضل” من الدولة التي أجرتها،
ولعلها “أفضل” إنجاز لهذا الحكم الذي تنسب إنجازاته لغيره ولا تحصر فيه إلا العيوب والمآخذ وسوء الأداء!
هذا إذا ما نظرنا إليها من “داخل” الحرب ومآثر دهرها الطويل بكل ما تركته في النفوس (وعلى الأرض؟!) من إفرازات وقوى تحمل جميعاً تشوهات خطيرة في بنيتها وفي “فكرها” وفي فهمها للتغيير، قبل أن نصل إلى ادعائها إنها هي بذاتها التغيير المنشود!
لقد ذهب الذي كان قبلها. تهاوى بالتقادم، أو غيبه الغياب الطبيعي أو القسري… وذاكرة الذين ولدوا خلال الحرب وعبر نيرانها وأثقلوا “بقيمها” وقوانينها أصغر من أن تتسعلهم، فإن حفظت بعضهم ففي خانة الأحقاد.
حتى من خاب ظنه أو أمله في “أبطال” الحرب لم يعد إلى الخلف، بل لعله هرب إلى … فوق، إلى “ألله” عبر التدين والمتدينين، أو إنه هرب إلى الأمام عبر الاستنكاف الطلق، إذ وجدها “لعبة قذرة” فامتنع عن المشاركة، تاركاً “لهم” أن يقرروا ما شاؤوا، فهو لا يعترف بهم ولا بما يقررونه، ولكنه يأنف من مواجهتهم ويعتبر التصدي لهم اعترافاً بهم، وهو يرفض أن يسجل على نفسه مثل هذه “السقطة”!!
نعم، إنها انتخابات،
والمطاعن أو التحفظات أو الاعتراضات تتصل بالأحلام أكثر من اتصالها بوقائع الحياة اليومية التي يرزح تحتها مجموع اللبنانيين.
لقد أفرزت “حرب” 1958 نتائجها السياسيةن وجرى تقبلها مع شيء من التحفظ، والتعايش معها لمدة عشر سنوات، ولولا هزيمة 1967 (العربية) لما ولد “الحلف الثلاثي” لبنانياً ليحصد من بعد ثمارها السياسية.
أما حرب 1975 – 1990 فهي حلقة متكاملة من الحروب التي لما تنته، بل لعل أخطرها ما تدور رحاه الآن على طاولة المفاوضات مع إسرائيل في واشنطن،
والنتائج ما تزال مفتوحة لما تستقر علىصيغة نهائية،
العالم يعيش حالة من التحول غير المسبوق، والمنطقة تهتز وتختمر فيها احتمالات من الصعب تحديدها وتقدير وجهتها النهائية،
الكل يعيش في “المؤقت” و”الاستثنائي” و”الانتقالي”
وفي لبنان، بالذات، يتجلى هذا “الانتقالي” أو “الاستثنائي” أو المغاير لما كان، في كل المجالات، فلماذا نقبل التحول في كل مجال ثم نستبشعه أو نرفضه كما تبدى في الانتخابات؟! من الذي “برز” في الانتخابات النيابية؟!
ببساطة إنهم “أبطال” الحرب،
البعض قطف الثمار “بالتزكية”، فهو ما زال قادراً حتى هذه اللحظة، وبسبب من احتكاره حق الوجود “على الأرض”، على إلغاء غيره، سواء أكان هذا الغير ينتمي إلى “الماضي القبيح” أو إلى المستقبل المرجو جميلاً.
والبعض “قطفها” بالاستنكاف والاندفاع بها إلى حد المقاطعة، وهو إجمالاً يحاول تعويض هزيمته “العسكرية” بابتداع موقف سياسي يعيده إلى الساحة. إنه يستحضر نفسه بالغياب. إنه يستقوي عبر تخويف الآخرين بالفراغ الذي يخلفه خروجه من اللعبة.
وبعض ثالث قطفها باستغلال هذا الوضع “الاستثنائي” الذي لا يمكن أن يدوم باستيعاب الآخرين، ومعظمهم يرمز إلى الماضي، لكنهم ما زالوا أضعف من أن يزيحون أو يتغلبوا عليه، فارتضوا موقع الشريك الأضعف بأمل أن يعودوا فيستعيدوا ما كان لهم وما اغتصب من “حقوقهم” عبر الحرب ومقتضيات زمنها. فهم يرون أنهم الدائمون وإن قوى الحرب عارضة لن تلبث أن تسقط من فوق “القمة” التي ولدت في “الاستثناء” وتذهب معه، كأي ملمح “مؤقت” أو تدبير أو وضع “انتقالي”.
وثمة طرف رابع اقتحم اللعبة من باب “الاستثناء” أيضاً، فالوضع “الانتقالي” يعطي مساحة خاصة للمتطرف عموماً، فكيف بمن تطرف حتى بلغ عنان السماء؟!
نعم، إنها انتخابات عصر التحولات والمرحلة الانتقالية،
وعيوبها، كإنجازاتها، تنتمي إلى هذا الوضع الاستثنائي الذي نعيش في ظله، ولكننا نكابر فنجهر برفضنا لما ندرك إننا مجبرون على التسليم به.
مسلم باتفاق الطائف، وبالوسائل والأساليب والقوى التي أنجزته “لنا”، ثم نتردد في قبول “الحكم” الذي ولد كنتيجة.
ونسلم، مرغمين، بالحكم، ثم نحاول رفض “الحكومة”، ولكننا نتمسك بالمجلس الذي جاء بالحكم والحكومة، وفرض علينا نفسه – وهو بعض الماضي – مستقبلاً!!
فإذا جاءت الانتخابات استهولنا أن يكون سامي الخطيب وزير الداخلية، مع أنه في موقعه منذ سنتين إلا قليلاً، وبوصفه بعض حكم الطائف – كما استقرت صيغته – وليس دخيلاً أو طارئاً عليه.
نعرف أن الإدارة عاجزة، وتافهة، ومتخلفة، وتكاد تكون أداة تعطيل، فإذا ظهرت عيوبها دفعة واحدة عبر الانتخابات استهولنا الأمر وبادرنا إلى رفض النتائج التي تتصل بالواقع السياسي ولا يشكل الواقع الإداري إلا تعلة أو ذريعة أو “أفرازاً” من إفرازات الحرب التي أنجبت هذا الواقع السياسي!
إن نتائج الانتخابات واقعية، ولكنها ليست حقيقية.
إنها تعكس “الواقع” أو “الأمر الواقع” كما هو “على الأرض”،
فالدولة كانت وما تزال قيد التأسيس: من قمتها إلى آخر جهاز فيها.
والمؤسسات تحت الولادة، في أحسن الحالات: فثمة آلاف من الجنود، لكن الجيش كمؤسسة يولد الآن، في ظروف قاسية واستثنائية في مصاعبها المانعة لاكتمال نموه… وهذا ينطبق على قوى الأمن الداخلي بمختلف فروعها.
إنها المرحلة الانتقالية، ولما يكتمل “التسلم والتسليم” بين مؤسسات الحرب التي كانت خارج “الدولة” وخارجة عليها، وبين مؤسسات دولة عصر السلام الوطن الموعود./
وهذا المجلس الوليد انتقالي هو الآخر.
فلماذا نقبل الأوضاع الانتقالية في كل مجال ثم نرفع الصوت برفضها هنا؟!
هذه ليست دعوة إلى التسليم بالنتائج وكأنها الأفضل والأكمل والأكرم لطموحات هذا الشعب ورغبته العارمة في التغيير،
ولكنها دعوة إلى تنبه للواقع، وكم تنتمي إليه هذه النتائج بغض النظر عن رأينا فيها، وكما تشكل خروجاً عليه،
ففي هذه النتائج “الواقعية” وغير الحقيقية في آن، قدر كبير من النزعة إلى التغيير، بل وإلى شيء من التغيير، ولو اتسم بالفجاجة والخروج على المألوف أو المرتجى أو المتوقع.
إنه النسخة الخام من محاولة التغيير.
ولن يظهر التغيير بصورته الكاملة إلا مع انتهاء زمن الحرب وتشوهات الحرب، وعندها فقط تعود الحقائق فترض نفسها بديلاً شرعياً عن مواليد “الأمر الواقع” بكل ما فيه من أمراض وإرهاب وعورات وأمنيات كسيحة.