انتهى زمن الاستثناء في القمم العربية وباتت العودة إلى “العادية” ممكنة طالما إن مناخ “السلام” قد بات هو السيد، ولم يعد “المتطرفون” يشكلون عائقاً جدياً في طريق “التسوية” الأميركية “للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي”.
وقمة بغداد التي تختتم أعمالها اليوم مرشحة لأن تدخل التاريخ باعتبارها المحطة الأخيرة قبل انبلاج زمن المصالحات العربية – العربية في ظل مناخ “السلام” الإقليمي وهو أحد أبرز نتائج عصر الوفاق الدولي لصاحبته الولايات المتحدة الأميركية.
فإذا صحت الأخبار (المصرية المصدر) بأن قمة عربية “عادية” ستعقد خلال تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل في القاهرة، تكون قمة بغداد (الناقصة) قد أكملت مهمتها “الاستثنائية” محققة وصل ما انقطع لخلل ما طرأ في قمة الدار البيضاء بحيث جاءت قراراتها مخالفة لدفتر الشروط الأميركية.
فليس سراً أن واشنطن لم “تنل” من تلك القمة كل ما كانت طلبته منها،
… وإنها برغم حماستها في تأييد انعقادها بضيافة صديقها الموثوق الحسن الثاني فإنها قد امتنعت عن تأيد (أو حتى قبول) قراراتها، إن في ما يتصل بالصراع العربي – الإسرائيلي (سابقاً، ومشاريع التسوية كما اسمها الرسمي حالياً)، أو في ما يتصل بالمسألة اللبنانية ومشروع حلها “العربي” العتيد.
ولعل الرسالة – التعليمات التي وجهتها واشنطن إلى قمة بغداد عشية انعقادها قد حددت بوضوح وجوه النقص والخروج على النص طالبة استدراكها فوراً وتحت طائلة المسؤولية.
لذا كانت قمة بغداد مطلوبة ولمهمة موصوفة ومحددة بدقة مطلقة،
ولقد كان فاقعاً التباين بين ما يريده ياسر عرفات، الداعية والمروج والمسوق، وبين ما يطلبه المضيف صدام حسين من هذه القمة.
كان كل منهما يحدد للقمة ذاتها شعارات واستهدافات وجدول أعمال ومهمات غير تلك التي يحددها “شريكه”.
كان الرئيس العراقي يريد قمة “مواجهة” للتهديدات الإسرائيلية التي تحظى بمساندة غربية إعلامية ذات طابع تشهيري.
ولقد بدا، في لحظة، وكأن الرئيس صدام حسين ذاهب إلى الحرب ليس فقط لحماية العراق والأمن القومي المهدد، بل كذلك لتحرير فلسطين.. في حين يجوب رئيس دولة فلسطين الأجواء العربية بطائرة عراقية ليدعو إلى دعم مجهوداته (وتنازلاته) لإنجاز تسوية ما، و”الصلح” إن أمكن، بالرعاية الأميركية المتاحة!
ياسر عرفات هو الذي حدد زمان القمة ومكانها وجدول أعمالها “التسووي” وبرؤية واضحة تتسق مع التزامه المسبق مع الولايات المتحدة الأميركية،
ولقد كان ياسر عرفات متسرعاً ومتلهفاً على قمة ينجز فيها هذا الالتزام إلى حد إنه كان يخسر بعض أصدقائه التاريخيين من القادة العرب.. ويقال إنه سمع من ثلاثة منهم لوماً وصل في الجزائر إلى حد التأنيب بسبب تقصده الدعوة إلى قمة تستبعد عنها سوريا (ولبنان) في حين إن موضوعها الأصلي هو الأمن القومي!
ولأن الأكثرية المطلقة من حكام العرب لا تعترض على جوهر المشروع التسووي فهي قد ضغطت لخفض سقف قمة صدام حسين في بغداد بحيث تتلاءم مع التزام ياسر عرفات.
لكأنما قمة بغداد الحالية هي “فاس الأولى” التي لا بد لها من “فاس الثانية” لتتم فصولاً،
فقمة القاهرة العتيدة، لو عقدت فعلاً بعد خمسة شهور، ستكون محكومة النتائج بقرارات بغداد اليوم، وهي قرارات تأخذهم في اتجاه “الصلح” وليس في اتجاه الحرب، بأي حال.
وعلى الهامش يمكن التسجيل أيضاً:
إن قمة بغداد اليوم تبدو وكأنها تكمل مهمة قمة الحد الأدنى في بغداد العام 1978، وإن بدا للوهلة الأولى وكأنها تنقضها.
فقبل اثني عشر عاماً حدد القادة العرب في بغداد سقف العقوبة لجريمة الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي: “الطرد” من جامعة الدول العربية ونقل مقر الجامعة إلى عاصمة أخرى.
اليوم تقرر قمة بغداد الجديدة إلغاء الاستثناء في القمم العربية، وتحديد القاهرة بالذات مقراً لانعقاد القمة دورياً في تشرين الثاني من كل سنة، وفي المقر “التاريخي” لجامعة الدول العربية التي عادت إلى مسقط رأسها “سالمة يا سلامة”!
واليوم تتنفس السعودية الصعداء، فلقد أمكنها تجنب الكأس المرة، إذ ظلت طوال سنوات وسنوات تتهرب من عقد القمة “العادية” فيها، حتى لا تتحمل المسؤولية التاريخية عن القرارات “الاستثنائية” التي ستصدر عنها، والتي ستصب كلها في خانة “التسوية” والتنازل والتفريط، وكلها لا تحظى بشعبية واسعة برغم ليل الهزيمة والخيبة وافتقاد الثقة بالذات.
اليوم يستطيع الرئيس المصري حسني مبارك أن يرتاح، فلقد استكمل إعادة الاعتبار إلى القاهرة (وإلى الجامعة العربية فيها) بعدما تجاوز العرب – وبغير خسائر تذكر – كمب ديفيد والعلم الإسرائيلي على طرف “كوبري الجامعة” ومباشرة أمام تمثال “نهضة مصر” للمثال العظيم حسين مختار.
لم تمنح قمة بغداد الخائفين الآتين إليها الكثير من الشجاعة، بل لعلهم قد تصرفوا فيها وكأنهم قد ازدادوا خوفاً.
لعل اللقاء، ومواجهة الواقع وبمعطياته السياسية والاقتصادية والعسكرية، قد زادتهم خوفاً على خوف، فاندفعوا – جماعة – نحو مصدر الأمان الوحيد: واشنطن.
لعلهم لهذا صرفوا النظر عن رسالة الاحتجاج (؟) على هجرة أو تهجير اليهود السوفيات إلى أرضهم المحتلة (في فلسطين وخارجها) حتى لا يتسببوا في إغضاب الصديق بوش وفقدان رضاه بمخالفة تعليماته الصريحة.
على إن قمة بغداد، وفي ظل سيادة الخوف، قد تكون قدمت للعرب خدمة جلى إذ أشاعت جو المصالحات في ما بينهم،
فقمة بغداد، وبرغم كل شيء، لم توسع دائرة الخلافات القائمة، عربياً، ولم تدفع في اتجاه تسعيرها وتفجير الكامن منها،
وهذا “مكسب” عظيم في ظل الخسائر القومية الهائلة،
ولعل لبنان سيكون بين المنتفعين من جو المصالحات العربية، تمهيداً لقمة “هادئة” في القاهرة تستطيع إقرار وتقنين ما تم الوصول إليه بين قمة بغداد الأولى وقمة بغداد الثانية.
ومن أسف إن “مكسباً” تفصيلياً ومؤقتاً كهذا سيقبل، ولو عرف “الرابحون” إنهم سيخسرون بالجملة ما لا يمكن تعويضه!
لكأنما العرب باتوا مستعدين للقبول بالصلحين، الصلح مع العدو والصلح مع الذات إذا ما جاءا متلازمين ودفعة واحدة!