لم يتوفر لقمة عربية من دواعي الانعقاد ما توفر لقمة اليوم في بغداد، من حيث المبدأ، على الأقل.
ولم يظهر التعارض بين قمة عربية وبين أهدافها المعلنة كهذا التعارض النافر بين قمة بغداد اليوم وبين أهدافها المعلنة.
حيثيات انعقاد القمة خطيرة وعديدة، حتى لتستحق “دورة عمل مفتوحة” للمسؤولين العرب، على مختلف مستوياتهم وفي شتى المجالات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية، يتفرغون خلالها – وبقدر ما يلزم من القوت – لمواجهة شؤون مصيرهم،
لكن قمة اليوم، في بغداد، تبدو هزيلة وقاصرة عن الإنجاز بحيث كان يغني عنها بيان من تلك التي تعود عليها المواطن العربي: تأييد وشجب واستنكار وإشادة بالقيادة الملهمة والتي يتوقف على استمرارها بقاء شعبها وأمتها!
و”نصف القمة” التي سترى النور اليوم بعملية قيصرية تهدد جدياً سلامة الوالدة والمولود، مرشحة لأن تتحول هي وبنتائجها المحتملة إلى مصدر خطر جدي على الأمن القومي وعلى مختلف القضايا المدرجة، على جدول أعمالها. أو الغائبة عنه على وجه الخصوص (كقضية لبنان).
ولقد ظهر الارتباك واضحاً ومنذ اللحظة الأولى سواء في مناقشات وزراء الخارجية أم في جدول الأعمال الذي أعدوه لهذه القمة بعد لأي، والذي حكمته المساومات وروح المناقصة فتم إسقاط أكثر من بند أساسي منه وتم خفض السقف بحيث بهتت سلفاً النتائج البائسة المرجوة منه.
ولولا مشاركة العقيد معمر القذافي، المفهومة الأسباب والايجابية بمردودها النهائي ككابح لجموح المندفعين لطلب الرضا الأميركي بأي ثمن، لأمكن وصف لقاء بغداد بأنه “قمة اللون الواحد”،
فمجموع المتداعين إليها والمشاركين فيها هم أوثق العرب علاقة بالولايات المتحدة الأميركية، وأحرصهم على المصالح الأميركية (والغربية عموماً) في المنطقة، والأعظم إخلاصاً في حمايتها وضمان استمرارها،
وهم لم يكونوا بحاجة إلى مثل تلك المذكرة القاسية التي وجهتها واشنطن إلى القمة، عشية انعقادها، والتي فضحتهم وكشفت بؤس القمة والمهمة الأميركية الصريحة المحددة لها بدقة.
لقد ظلت قمة بغداد مموهة حتى إعلان تلك المذكرة التي أسقطت الأقنعة والتمويه والشعارات الخادعة.
ولقد اضطر ياسر عرفات إلى الاعتراف، أمام بعض ناصحيه، بأنه وظف رصيده الشخصي وبعض وهج قضية فلسطين من أجل قمة محكومة بالفشل،
لكنه، بالمكابرة وحدها، لم يعترف بمدى الضرر الذي ستلحقه هذه القمة البائسة بفلسطين وسائر قضايا الأمة، مقراً بشرعية التخوف وإن كان ادعى إنه يملك من “الضمانات” ما يكفي للاطمئنان إلى مستقبل مسيرة التسوية بقوة الدعم الأميركي لها.
وفي ما يخص لبنان فإن من المفارقات الجارحة أن تكون واشنطن قد عرضت أن تدعو لبنان رسمياً، إذا ما ضمنت موافقة رئيس الجمهورية على الذهاب، والمشاركة في قمة بغداد، حتى لو غابت عنها دمشق.
ولقد جاء العرض – المساومة بلسان مساعد وزير الخارجية الأميركي، جون كيلي، وإن بصيغة غير رسمية، ولكن الهدف منه واضح بحيث لا يحتاج إلى شرح.
إن واشنطن تتولى، منذ فترة، “تنظيم” الخلافات العربية،
وهي اليوم تتولى تنظيم قمة بغداد ونتائجها بحيث تكون ضمانة إضافية لاستمرار هذه الخلافات ومفاقمتها، بحسب مقتضى الحال.
إنها “تنظم” الخلاف العربي حول الصراع العربي – الإسرائيلي وموجباته.
وهي “تنظم” الخلاف العربي، حول مشاريع التسوية بتلك الاغراءات التافهة التي تلوح بها – بين حين وآخر – لقيادة منظمة التحرير فتجعلها تندفع بعيداً عن السياق النضالي لشعبها العظيم، خصوصاً في ظل انتفاضته المجيدة.
وبديهي أن تتذرع بعض الدول العربية بموقف المنظمة لكي تعزز نهج التنازل والتفريط، وأن تظل دول عربية أخرى على موقفها المبدئي (والعملي)، فتزيد الفجوة في ما بين العرب بدل أن تضيق، ملحقة أفدح الضرر بالقضية المركزية لنضالهم القومي وإطار وحدتهم ومرتكز أمنهم القومي: فلسطين.
لقد أعادت واشنطن، عبر مؤتمر القمة في بغداد “تنظيم” الخلاف بين العرب حول لبنان، بما يعطل أي جهد جدي لوضعه على طريق السلام عبر الحل “العربي” الذي أنجب برعايتها المباشرة في الطائف.
فقمة لا تدعو إليها رئيس جمهورية لبنان المنتخب على قاعدة اتفاق الطائف ليست دعماً لمشروع الحل بل هي تعطيل له،
ثم إن رئيس البلد المضيف ومعه صاحب الدعوة، والمروج لها (عرفات) لا يعترفان كلاهما لا باتفاق الطائف، ولا بنتائجه السياسية وأولاها، انتخاب الياس الهراوي رئيساً للجمهورية،
وهذا سيضع أعضاء اللجنة العربية الثلاثية – والعليا هذه المرة – في مواجهة الداعي والمضيف.
ربما لهذا قرر الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد الغياب،
وربما لهذا تردد الملك السعودي فهد طويلاً قبل أن يقرر هل يحضر أم يغيب، موازناً بين كلفة هذا ومغبة ذاك،
أما الملك المغربي الحسن الثاني فلم يتعود “السفر” للمشاركة في قمم يدعو إليها ويستضيفها غيره، ثم إن موضوع لبنان يأتي في آخر اهتماماته… هذا إن كانت له اهتمامات عربية أصلاً.
وأخيراً فإن قمة “عربية” لا يدعى إليها لبنان وتغيب عنها سوريا لا تملك كثيراً من أجل لبنان.
كذلك فإن واشنطن “تنظم” الخلاف العربي حول النقل المنظم لليهود السوفيات من الاتحاد السوفياتي إلى فلسطين وسائر الأرض العربية المحتلة.
وأول نجاحات واشنطن في هذا السياق إن معظم الملوك والرؤساء العرب يغفلون أو يتجنبون الإشارة إلى الدور الأميركي البارز والأساسي في هذا الأمر الخطير الذي يستهدف “بعض” العرب في وجودهم وكل العرب في مصيرهم.
ويروي بعض العائدين من موسكو إن القيادة السوفياتية سمعت أكثر من منطق عربي في موضوع هذا التهجير الأميركي المنظم للسوفيات اليهود إلى فلسطين،
يقول هؤلاء: إن القيادة السوفياتية سمعت من الرئيس السوري حافظ الأسد، بعد العرض الصريح، أفكاراً عملية تنبع من مشاعر الصداقة والحرص عليها من غير التفريط أو التعاون في الشأن المصيري. فهو تحدث عن ضرورة توحيد الجهد بين الدولتين الصديقتين لمواجهة المسألة، في مواجهة الضغوط الأميركية الهائلة. وبين أبرز المبادئ – الأفكار التي اعتمدت: ألا يكون “تمتع” يهود الاتحاد السوفياتي بحق الهجرة، وتحت لافتة حقوق الإنسان، إلغاء لحق الإنسان العربي (والفلسطيني تحديداً) في أرضه وفي حياته فوقها.
أما من ياسر عرفات فقد سمعت موسكو منطقاً مختلفاً يشهدد على الاجراءات قافزاً من فوق أصل الموضوع، ربما لتحاشي الحديث عن المسؤولية الأميركية المباشرة فيه، بينما هو في غمرة رهانه البائس (واليتيم) على الوصول إلى “تسوية” من أي نوع وبأي ثمن مع العدو الإسرائيلي، وبالاعتماد على الشفاعة الأميركية.
أما من الرئيس المصري حسني مبارك فقد سمعت موسكو منطقاً فيه رنين المزايدة، إذ يغفل المسؤولية الأميركية والمسؤولية الإسرائيلية ويشدد على ضرورة مراعاة الصداقة العربية – السوفياتية.
وبالمقابل، عجز وزراء الخارجية العرب الذين التقوا قبل أيام في بغداد لإعداد جدول أعمال القمة عن صياغة موقف موحد، وإن كان التيار الغالب فيهم يدفع باتجاه “لوم” الاتحاد السوفياتي “الذي خذل أصدقاءه العرب”، متجنباً الحديث المباشر عن الدور الأميركي.
وحده حضور القذافي قد يحقق شيئاً من التوازن في البيان الختامي، خصوصاً وقد سمع من الرئيس الأسد عرضاً لنتائج زيارته للاتحاد السوفياتي، مع توضيح لموقف موسكو الرسمي (والعملي) من موضوع هجرة أو تهجير السوفيات اليهود.
وإن واشنطن تقوم الآن بدور “المايسترو”: تنظم الخلاف وتنظم قمة الخلاف لتطمئن إلى أن نتائجها ستكون “منظمة” تماماً و”منتظمة” في سياق استكمال أسباب الهيمنة الأميركية (الإسرائيلية) على المنطقة العربية.
لماذا هذه القمة، إذن؟
إذا كان الأمر يتعلق بدعم العراق في مواجهة الحملة الغربية والتهديدات الإسرائيلية لأمنه أو لحقه بالتقدم، فإن قمة تنعقد بهذا الارتجال والتعثر لا تنفع كثيراً في حماية ولا ترد خطراً محتملاً.
أما الأمن القومي فإن قمة مرتجلة ومحكومة بالفشل تزيد من مصادر تهديده إذ هي تكشف للعدو (أو الأعداء) إن العرب ليسوا “واحداً” بأي معيار: لا في العلاقة مع الصديق ولا في الموقف من العدو.
حتى لتبدو وكأنه قمة الافتراق، هذه القمة البائسة في بغداد،
فغداً قد يكون غياب الغائبين أو المغيبين بقصد مقصود، عذراً للحاضرين كي يمضوا بعيداً وراء تسوية لا تسوي شيئاً ولا تحفظ (أو تبقي) حقاً في فلسطين.
وفي ما خص لبنان فقد تكون قمة بغداد نقضاً لما تحقق له في قمة الدار البيضاء.
ومع إن قمة بغداد ستجدد، على الأرجح، للجنة العربية العليا وستعلن دعمها لاستمرار مساعيها من أجل إنجاح الحل العربي في لبنان، لكن مناخ القمة سيضرب الصلة بين اللجنة ومهمتها، أي إنه سيمدد للجنة وينسف حلها العتيد.
وفي أي حال فإن حديث الحل في لبنان سيختلف بعد القمة اختلافاً جذرياً عنه قبلها، ومرة أخرى سيدفع شعبه الجريح المزيد من دمه ورزقه ثمناً لهذا الاختلاف.
ومؤسف هو القول: إن انتصار الرئيس العراقي أو الرئيس الفلسطيني في عقد القمة في بغداد قد كلف الأمة ما يكاد يعادل الهزيمة، من حيث مدلول النتائج، والفارق بين المحتمل صدوره عنها وما كان مأمولاً لو عقدت في ظروف أكثر جدية وأكثر تعبيراً عن روح المسؤولية وروح الالتزاز بموجبات الأمن القومي.
برغم هذا كله فإن المواطن العربي يتمنى، بعد، أن يبذل المخلصون من القادة العرب جهداً لاستنقاذ المصير العربي،
ويتمنى بشكل خاص على القادة والمسؤولين المشاركين في القمة أو الغائبين عنها أن يتقوا الله في أمتهم، وأن يعملوا على تحديد الخسائر طالما تعذر منع الكارثة.
ومرة أخرى: اللهم إننا لا نسألك رد القضاء، ولكننا نسألك اللطف فيه.