طلال سلمان

على الطريق قبل أن يسترد “يهوذا” شرفه!

يتصرف بعض العرب وكأن حالة العداء مع إسرائيل من تراث الماضي، وإن الصلح المقبل (سريعاً) هو النهاية السعيدة لمرحلة مرهقة كانوا يتعجلون الخلاص منها، بأي ثمن، منذ البدايات القديمة، لكن الخوف من “المتطرفين” العرب كان يمنعهم باسم “الثورة” و”التحرير” و”الكفاح المسلح” مما تسبب في مزيد من المآسي والهزائم والخسائر في الأرض والأرواح والزمان!
لكأنما يراد رد الاعتبار لمن أدانتهم الأمة، عبر تاريخ الصراع، بجرائم التفريط في الأرض وفي الكرامة القومية وفي الحقوق الطبيعية للمواطنين في بلادهم.
ولكأنما يراد تشويه من حاول بشرف تحقيق الحلم البهي بالتحرير ثم قضى دونه،
يقولون لك: إنه العصر الأميركي، وقد اختلفت القيم والمفاهيم والظروف، فما كان صحيحاً من قبل ثبت اليوم إنه خطأ محض، وما كان هدفاً نبيلاً صار اليوم خطأ في التقدير أو مبالغة غير مبررة أو تخلفاً عن العصر وتحجراً وجموداً عند الشعارات التي تدغدغ المشاعر لكنها تخرب البيوت!
ويقولون لك: لقد سقطت رايات الثورة في كل مكان، وأسقطت تماثيل الثوار وديست صورهم وأعلامهم بالأقدام، وانقضى عهد الاشتراكية والشيوعية والتقدمية والاستقلال الوطني والوحدة القومية، وجاء عصر اقتصاد السوق و”حقوق الإنسان” والتعددية السياسية والسيادة المطلقة للمركز الكوني الأوحد في واشنطن.
ويقولون لك : إن إسرائيل حقيقة وفلسطين وهم أو حلم، واليهود ملوك العالم في السياسة كما في الاقتصاد، في العلوم كما في الأعلام، وإن مقاومتهم مناطحة للصخر وتعنت انتحاري!
لكنهم يقولون لك أيضاً، ومن دون إحساس بالذنب أو بالتورط في خطأ اعتماد المنطق وعكسه: “- إن شامير بطل وطني، إنه عقائدي صلب لا يتراجع عن حرف واحد من ايديولوجيته ومعتقداته التلمودية، إنه متمسك بكل حبة رمل، لا يتنازل عن مستوطنة واحدة لا في الضفة ولا في القطاع ولا في الجولان. أما القدس فقد انتهى أمرها، ومخبول من يفترض إنها ستعود إلى العرب (أي إلى أهلها الفلسطينيين) كلها أو بعضها. كبر عقلك! هذا شامير! إنه نموذج المتعصب والقومي إلى حد الشوفينية واليهودي حتى العظم! إنه إذا قال فعل. وحتى لو أراد التراجع، لأسباب سياسية قاهرة، فإن تربيته تمنعه، وبيئته تنكره، وجماعته تنفض عنه ملتحقة بمن يحقق أحلامها التوراتية”!!
أي إن الوطني من العرب مرذول ومسفه، في حين إن “الوطني” الإسرائيلي بطل صنديد ونموذج يحتذى!
… والقومي، الوحدوي، من العرب وأهم، مضلل ومضلل، لا يقود الناس إلا إلى الكوارث، في حين إن المطالب بإسرائيل الكبرى وبإمبراطورية من النيل إلى الفرات زعيم عالمي خطير ومناضل محترم و”صاحب كلمة” من نوع “إذا قال فعل”!
الاشتراكي في الصفوف العربية منحرف أو عميل،
والاشتراكي في صفوف الإسرائيليين (أو الفرنسيين والأوروبيين عموماً) رجل تاريخي صاحب رؤيا وبصيرة تستشف المستقبل وتستقرئ الغد وتراهن على حتمية التقدم الإنساني من خلال استيعاب صاحبها لروح العصر.
المتمسك بأرض غيره منهم عقائدي له مهابته ويستحسن التراجع أمامه والتنازل له عن حقوقك درءاً لغضبه وتقديراً لإيمانه القومي – الديني الملتبس!
والمتمسك بأتفه شكليات الطقوس والمناسك الدينية منهم، من القلنسوة إلى حجر حائط المبكى إلى جمود السبت الخ، موضع إعجاب عميق!
أما المتمسك بأرضه من العرب، فلسطينياً كان أم سورياً أم لبنانياً، فهو معطل للحل معاد للسلام وداعية حرب لن تؤدي إلا إلى هزيمة عربية جديدة!
وأما المتمسك بدينه من العرب، مسلماً كان أم مسيحياً، فهو متعصب مزموم، وهو من أهل الكهف يريد منازلة الكومبيوتر اعتماداً على موروثات فات أوانها وانقضى زمانها ولم تعد صالحة للاستعمال!
الطريف إن المروجين لهذه المغالطات هم الذين لم يشاركوا في معركة واحدة، ولم تسقط قطرة من دمائهم على طريق فلسطين أو الوحدة أو الاشتراكية!
لقد قاتلوا بالأمس ضد كل جهد من أجل التقدم والتحرير،
وهم يروجون لتخليهم وهربهم من الميدان وتخاذلهم واستسلامهم (الدائم) وكأنه بعد نظر وحسن قراءة لخريطة التحولات الدولية!
صار من صادر البلاد لذريته الصالحة (!!) ومنع شعبها من ممارسة الحد الأدنى من حقوقه كإنسان (قبل المواطن) هو الذي يحاضر في الديموقراطية والحريات!
وصار سمسار المحتل الإسرائيلي والمهيمن الأجنبي هو الذي يعطي الدروس في أصول “التحرير” واستعادة “الحقوق المسلوبة” و”العزة” و”تحقيق كلمة الله”… كل ذلك تحت لافتة “العمل لاعلاء كلمة الله” وحماية الدين الحنيف!
ألا تتذكر المثل الشهير عن أفصح المحاضرات عن العفة والشرف المصون؟!
إنه عصر “يهوذا”.
لكن من قال إن “يهوذا” هو القائد المظفر وهو الباقي خالداً في ذاكرة الإنسانية كرمز “للشهامة” و”حقوق الإنسان”.
وصحيح إن الذاكرة تختزن اسم “يهوذا” الأسخريوطي ولا تسقطه، ولكنها تستبقيه كرمز للخيانة والغدر والتفريط بأعز الناس والرسول الآتي من عند الله لهداية البشر.
وصحيح إن السيد المسيح قد لاقى الهزيمة على يد الفريسيين والزنادقة واللصوص الذين حولوا الهيكل إلى مغارة، كما على يد المهيمن الأجنبي، لكن رسالته هي التي انتصرت وبقيت منارة هداية وإشعاع.
و”يهوذا” باع “معلمه” يومذاك وانحاذ إلى صف “الأكثرية” التي كان يحركها اليود ويرسلونها في طريق الضلال.
لكن “الأقلية” هي التي عادت فانتصرت واستقرت كحقيقة ثابتة في التاريخ، مثلها مثل الأرض التي لا تحول ولا تزول ولا تنسى أهلها وأصحابها الذين يعطونها حياتهم لتبقى!
اعتذار
وقعت بعض الأخطاء الفاضحة في افتتاحة “السفير” ليوم أمس، اختل معها المعنى. فقد سقطت بعض الكلمات سهواً، فتوجب الاعتذار والتوضيح، وغني عن البيان إن خيانة “يهوذا” للسيد المسيح واقعة حقيقية لا أسطورة، وكذلك إن “بطرس الرسول” هو الذي أنكر السيد المسيح وليس “يهوذا” الأسخريوطي! تماماً كما إن فلسطين حقيقة لا أسطورة، وتماماً كما إن الأكثر عروبة في الشكليات هم الذين أنكروها وما زالوا ينكرونها ثلاثاً قبل صياح الديك.
مرة أخرى اعتذر عن الخطأ غير المقصود، ولعن الله “يهوذا” وكل من يبيع أرضه وعرضه وشرف أمته!

Exit mobile version