لم يعد الصمت جائزاً على بعض ما يجري في مؤتمر البرلمانيين اللبنانيين هنا في الطائف. بحجة الحرص على استنقاذ فرصة نجلح “الفرصة الأخيرة” لإنقاذ لبنان برعاية اللجنة الثلاثية العربية.
بل لعل كسر حاجز الصمت بالاعتراض العلني بات ضرورة لإنقاذ المؤتمر واللجنة العربية صاحبة الرعاية والبلد العربي المضيف، ثم ما هو أغلى وأهم بكثير: صورة “الحل القومي” للمسألة اللبنانية، وصورة المستقبل في البلد الجريح الذي تكمن مأساته في تمييز نظامه ودولته (السابقة؟) بين مواطنيه وعلى أساس بحث طائفي،
فالجذر الحقيقي للحرب الأهلية في لبنان يمكن رصده في إسباغ نعمة “اللبنانية” على فريق وإنكارها على فريق آخر لا لسبب غير الانتماء إلى هذه الطائفة أو تلك.
ومنبع الاعتراض الخوف على الأساس السياسي لتجديد الوحدة الوطنية كضمانة لقيام “العهد الجديد” على قاعدة التسوية الطائفية العتيدة التي تحل “دولة المؤسسات” أو دولة كل الطوائف على أنقاض دولة الطائفة الواحدة.
من هنا نرفع الصوت بالاعتراض على صيغة البحث الجاري حول بند السيادة،
… ونرفعه من مقاعد “المراقبين” و”المتفرجين” و”المتنصتين” على ما يتسرب أو يسرب عمداً، وما يقال، مباشرة أو بالواسطة، في مؤتمر البرلمانيين… فنحن، في النهاية، مواطنون مثلنا مثل السادة المؤتمرين، لنا حق الرأي (الذي لا نملك غيره!)، في الشؤون المصيرية كهذه التي يناقشونها في قصر المؤتمرات بالطائف، بوصفهم رموز الطوائف ووكلاء “حقوقها”، بالأصالة أو بالوكالة، وحملة أعلامها المتعددة الألوان.
والاعتراض ينطلق من موقف مبدئي، ولكنه يشمل الشكل الذي لا ينفصل عن الجوهر، إذ كيف وانى يمكن فصل الشكل عن الجوهر في موضوع كالسيادة؟!
موضوع الاعتراض إن البعض حاول ويحاول مناقشة السيادة وكأنها “شأن مسيحي” بل ماروني لا يعني أحداً خارج أفياء الطائفة العظمى.
وموضوع الاعتراض إن رئاسة المؤتمر تركت لبعض أصحاب الغرض (والغرض مرض) الحبل على الغارب، فاحتكروا حق الكلام في موضوع السيادة وحاولوا “تهريبه” بعيداً عن الأكثرية الساحقة من زملائهم النواب، المسيحيين منهم والمسلمين.
وإذا ما كان البعض قد قبل من رئاسة المؤتمر أن تظهر حيدة مبالغاً فيها، ومرونة بلغت حد التسيب في تناول الوثيقة العربية للوفاق الوطني، واستباق المناقشة بالمناداة بضرورة التعديل والحذف والتحوير،
وإذا كان هناك من استغرب من رئاسة المؤتمر أن تجهر بأنها “لا تستطيع أن تتحمل وطأة هذه الوثيقة، وتفضل أن تقطع يدها على أن تقرها كما وردت”،
فإن الكل ارتضى بالنتيجة أن تأخذ المناقشات حول الاصلاح السياسي مداها، وأن يشارك فيها من يملك رأياً أو اجتهاداً أو اعتراضاً على ما يراه ناقصاً أو غير مطمئن أو غير محدد بالقدر الكافي.
وبرغم الحساسيات الطائفية، بل والمذهبية، فقد سار النقاش في بند الاصلاح سيراً مقبولاً، بمعنى إنه كان “وطنياً” بصورة عامة فلم ينقسم النواب بشكل فج إلى “مسلمين” يريدون اقتلاع المسيحيين من السلطة، وإلى “مسيحيين” لا يقبلون أن يدخل مسلم واحد زيادة على هيكل حكمهم المقدس…
كانت القضية سياسية أولاً واخيراً، وكان النقاش – بمجمله – سياسياً وإن برزت فيه نتوءات جرى تهذيبها “ودياً”،
وموضوع الاعتراض إن أكثرية النواب قد تهربت من تحمل المسؤولية، بشكل مباشر، حين فتح باب النقاش في موضوع السيادة.
كان المفروض، والطبيعي، أن تضع رئاسة المؤتمر يدها على الموضوع، عبر لجنة الـ 17 (بعدد الطوائف الكريمة)، أو “فريق العتالة” الذي يفترض إنه يمثل أو يعكس آراء النواب جميعاً، على اختلاف انتماءاتهم واتجاهاتهم وارتباطاتهم السياسية.
لكن الرئاسة تراخت، ومن في اللجنة لم “يقاتل” لحماية حقه فيها وحقها في أن تتولى صياغة موقف عام مشترك يجري توحيده عبر النقاش وعبر أخذ ملاحظات المعترضين والمطالبين بالتعديل بعين الاعتبار.
وساد جمود مريب، لا الرئاسة تدعو، ولا فريق العمل يجتمع، ولا اللجنة العربية تريد أن تقسر أحداً على قبول وثيقتها بغير اقتناع، وتتحاشى حتى أن تتهم بممارسة الضغط للتعجيل في إنهاء النقاش، خصوصاً وإن موضوعه حساس وذو شجون.
مر يوم واثنان وثلاثة ولا أحد يتحرك ممن يفترض فيه التحرك.
قبع الرئيس في جناحه يلتقي من يطلب لقاءه ويحاول تهدئة ثائرة المتشنجين.
وقبع النواب، عموماً، في أجنحتهم، ينتظرون ولا من يدعو أو يفتح باب النقاش،
ثم “استفاق” الجميع على تحرك “مسيحي” بقيادة مارونية وفذلكة كاثوليكية وإضافات أرثوذكسية، يطالب بضرورة تعديل بند السيادة بما يشتمل على ويحقق معظم طروحات “جنرال حرب التحرير”!
هذا في حين كان “الجنرال” يقصف المؤتمر والبرلمانيين بسيل يومي من الشتائم والتهديدات والطعن بوطنيتهم مع التلويح بإمكان محاكمتهم وإدانتهم بتهمة الخيانة العظمى.
وتبدل جو المؤتمر جذرياً، سادته ريح سموم، وتفشت انقاسمات، وعلت أصوات المتطرفين التي كانت خافتة، واشتد الضغط على العقلاء والمعتدلين والحريصين على تقصير أمد الحرب والتأسيس لعهد السلام الآتي بوفاق وطني جدي بين شروطه علاقات أخوة مفتوحة وثقة راسخة مع سوريا،
وانعقدت لقاءات لا تضم إلا أهل اللون الواحد، وعن اللقاء انبثقت لجنة، واللجنة ولدت لجنة أخرى عكفت على إعداد التعديلات المطلوبة لذلك الشق من وثيقة الوفاق الوطني الذي طالما نصحت اللجنة العربية بعدم المس به، باعتباره نصاً لتعاقد عربي ودولي وليس اجتهاداً شخصياً أو “مسودة” يمكن نسيانها بعد الفراغ من كتابة النص النهائي.
نواب الشرقية يلتقون، نواب الشرقية يناقشون، نواب الشرقية يعدون مذكرة بالتعديلات التي يقترحون، نواب الشرقية يطلبون موعداً مع اللجنة العربية لتقديم مطالبهم، نواب الشرقية يبلغون الأمير سعود الفيصل موقفهم فيطلبه خطياً فيعكفون على الكتابة الخ…
في ظل هذا النمط من الأخبار التي كانت تلغي المؤتمر ورئاسته واللجان الجامعة والمناخ الصحي، كان سائر النواب يقبعون في أجنحتهم منتظرين، أو ينزلون إلى الردهات “يشمشمون الأخبار”، أو يخرجون إلى حيث النوافير يتأملون حركة مياهها الدائرية ويتشمسون،
كان البعض يقتل ضجره بلعب الورق، أو بالأكل، أو بإجراء فحوصات طبية كان قد أرجأها منذ سنين في انتظار “أوقات الفراغ”،
واعتصم العديد من النواب، مسلمين ومسيحيين، بحبل الصمت باعتباره من ذهب، ولسان حاله يقول: إن قبلت اللجنة العربية مطالبهم فنحن معها وإن رفضتها فنحن أبرياء من دم هذا الصديق.
بل لقد هرب البعض أو تهرب بعدما ساد مناخ من التشنج، إما بذريعة العجز عن مواجهة التيار، أو بذريعة الخوف من الجنرال إن هو جهر بمعارضته للتعديل،
ومؤسف أن يقال إن معظم “المتشنجين” و”المتطرفين” إنما تحركوا بدوافع شخصية وبأغراض ومصالح أقل ما توصف به إن لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالسيادة والاستقلال والدولة الخ… فما علاقة السيادة بالترخيص لبناء غير شرعي، أو باستعادة القيمة النقدية لبعض المواسم التي اختلسها وكيل الأملاك… ثم ما علاقة السيادة بالحرص على العلاقة المجزية مع النظام العراقي، أو باستقطاب التطرف لتقصير طريق الطموح إلى الرئاسة الأولى أو إلى ما يعادلها بالعملة الصعبة؟
المهم إنه، لهذه الأسباب مجتمعة ولغيرها مما لا يتسع له المجال، تم التعاطي مع بند السيادة وكأنه شأن مسيحي خالص لا علاقة للمسلمين به من قريب أو بعيد!
على إن اللجنة العربية تصرفت بالحكمة المطلوبة لمنع تفاقم هذه الفضيحة،
*فهي، أولاً، قد طلبت ممن راجعها بداية باسم “نواب الشرقية” أو “النواب المسيحيين”، أن يرجع إلى “زملائه” في المؤتمر، وأن يتداول معهم، مع إبداء استعدادها لمناقشة ما يتوافق عليه الجميع في هذا الشأن الوطني الذي لا يخص فئة بعينها أو طائفة بذاتها…
*ثم إنها، ثانياً، قد أعادت التوكيد على طبيعة الشق الثاني من وثيقة الوفاق الوطني، كتعاقد عربي دولي من واجبها ألا تفرط فيه لأن بديله صعب جداً بل قد يكون مستحيلاً، وهو – في أي حال – يستدعي وقتاً طويلاً لإعادة إجراء الاتصالات اللازمة مع العرب جميعاً، ومع سوريا بالتحديد، ثم مع الدول العظمى أو تلك المعنية بتوفير حل أو شبه حل للأزمة اللبنانية المعقدة والمتشابكة مع الأزمة الكبرى التي تجتاح المنطقة وتفرض عليها الاضطراب الدائم.
*كذلك فهي، ثالثاً، قد لفتت نظر اللجنة المصغرة لنواب الشرقية، إلى أن موضوع الانسحاب السوري من لبنان. وبالتحديد من مناطق معينة فيه، إنما يرتبط بمجمل التطورات في المنطقة، ولا تملك جهة، عربية أو دولية، أن تثيره مع دمشق متجاهلة حقيقة استمرار الاحتلال الإسرائيلي لبعض الأرض اللبنانية ولبعض الإرادة العربية،
*وأخيراً فإن اللجنة العربية قد أبلغت “نواب الشرقية” إنها وإن كانت لا تتحزب ولا تنحاز، لا تتعصب ولا تجنح بالغرض أو بالرغبة في استرضاء طائفة من دون أخرى أو على حساب الأخريات، فإنها – كلجنة منبثقة عن قمة عربية ومكلفة بتنفيذ قرار محدد منها – لا تستطيع أن تسقط من حسابها موضوعاً خطيراً كالأمن القومي، وإن سلامة سوريا تعنيها بالقدر ذاته الذي تعنيها فيه سلامة لبنان بأرضه وشعبه ودولته القديمة – الجديدة.
… وهي مع حرصها المطلق على سيادة لبنان فإنها لا يمكن أن تنطلق في بحثها لصيغة المستقبل من واقع الخلل القائم أو التشوه الطارئ على العلاقات اللبنانية – السورية “فالبلدان الشقيقان باقيان، بكل ما يربطهما من علاقات لا تنفصم، بينما الأشخاص زائلون، والظروف قابلة للتبدل، في حين تبقى حقائق التاريخ والجغرافيا وصلات الرحم والمصالح المشتركة التي لا تقع تحت حصر”.
بعد سبعة عشر يوماً من قلق الانتظاروالضجر من المجادلات والمشاحنات والصفقات الصغيرة والمساومات التافهة حول كلمة هنا وفاصلة هناك، لم يعد مقبولاً السكوت على الخطأ في النهج أو في الأسلوب، في مناقشة الوثيقة العربية للوفاق الوطني في لبنان.
فالمؤتمر لم ينعقد لتكريس انتصار لفريق على فريق،
لكنه في الوقت نفسه لا ينطلق من فراغ، بل هو جاء نتيجة لتداعي الأحداث والتطورات في سياق محدد أكد مجدداً أن الوفاق الوطني شرط لوجود لبنان ولاستمراره.
ولو إن حرب “جنرال التحرير” قد انتهت بنصر مؤزر لما كان لهذا المؤتمر ضرورة، ولما كانت اللجنة العربية قد تعبت لإعداد وثيقتها للوفاق الوطني التي تستهدف – أول ما تستهدف – العودة بالبلاد إلى الحد الأدنى من الظروف الطبيعية، أي إلى ما قبل 23 أيلول 1988 وقبل تسنم “الجنرال” سدة الرئاسة نتيجة لذلك الأمر الذي دبر في ليل أمين الجميل.
ومفهوم أن يكون “الجنرال” ضد خلعه من موقعه الذي يتحصن فيه في ملجأ القصر الجمهوري في بعبدا، وأن يعطل – بالتالي – أي توجه نحو الحل، أي حل، وأساساً هذا الحل العربي الذي يرتكز على إعادة بعث الدولة بعد تجديد صيغتها.
ومؤتمر البرلمانيين اللبنانيين لم ينعقد لكي يبدأ عملية إعادة البناء انطلاقاً من الصفر، فهو بذاته بند من بنود الحل العربي، مثله مثل التهيئة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية وقيام حكومة وفاق وطني قوية وقادرة على بسط السيادة وإنهاء الأوضاع الشاذة بحل الميليشيات وفرض سيادة القانون وتحقيق العدالة وتعزيز وحدة البلاد باستعادة المحتل من أرضها في الجنوب.
وكل ذلك لا يمكن أن يتم بالتضاد مع سوريا وعبر إعلان الحرب عليها.
بل إن التعاون مع سوريا شرط النجاح، نجاح اللجنة العربية، ونجاح الحل العربي، ونجاح مؤتمر البرلمانيين، والنجاح في وضع قدم لبنان على طريق الخروج من أتون الحرب المهلكة والتهيؤ لاستقبال عصر السلام الآتي باسم العرب ودول العالم جميعاً، إضافة بالطبع إلى اللبنانيين.
والاعتراض هو على كل من وما يشاغب على تحقيق هذه الأمنية الغالية، والتي تستاهل أن تضحي من أجلها بكل جنرالات الحرب وأمرائها وكل المقصرين أو المعطلين… لأية طائفة انتموا!
ومشروع الحل يستاهل أن ننتظر بعد أياماً وأسابيع، إذا لزم الأمر، لكن المرفوض أن يحاول بعض المؤتمرين هنا أن ينسفوا هذا المشروع بحجة الحرص على مطالب الجنرال أو طروحاته المدمرة.
والمرفوض أن يحاولوا بشكل خاص، أن يحققوا عبر المناورات الطائفية المكشوفة ما عجزت مدافع الجنرال عن تحقيقه على امتداد سبعة شهور من القتل والتهجير والتدمير المدروس!
فليس المؤتمر بصدد تقديم جائزة ترضية للجنرال،
وموقف “الجنرال” من مشروع الحل العربي هو الذي يحدد موقعه في “العهد الجديد” إن كان له موقع أصلاً، وليست تهديداته للنواب بالمحاكمة والإدانة، أو تهديداته للبنانيين بتجديد الحرب.
والبرلمانيون هم مصدر البديل المفترض للجنرال، وليسوا المعنيين بتثبيته حيث هو، أو بضمان مستقبله الشخصي ولو على حساب لبنان واللبنانيين!