كانبثاق الصبح من ثنايا دامس الديجور،
كاستعادة الأرض معالمها وألوانها بعد انقشاع كثيف الضباب،
كعودة الوعي إلى فاقد الذاكرة بعد مسلسل من الصدمات العاتية،
كرجوع أهل الكهف إلى دنيا كانوا قد فقدوا الصلة بها والشعور بالانتماء إليها،
هكذا يعيش المواطن العربي حالة من التحول، على هامش مجريات “عاصفة الصحراء” الأميركية على العراق، تجدد صلته بالمهجور من مشاعره وشعاراته وأمانيه الغوالي التي طوى عليها عظام الصدر حتى لا تصدا أو تسقط في جب النسيان البلا قعر.
ومع هذه التحولات تعود إلى سطح الوجدان، ثم إلى التداول، ثم إلى دائةر التأثير والتحريك كلمات خطيرة مثل “فلسطين”، “العرب”، “العروبة”، “المواجهة”، وحتى “الحرب”.
لكأنك تتحسس جسدك بعد حادث سيارة مهول: تعيد اكتشاف يديك، صدرك، وجهك، قدميك، تستوثق من سلامة بصرك وسمعك وقدرتك على الوقوف.. وبعد ذلك قد تنتبه إلى ما أصاب السيارة وسائر الركاب.
أنت إذن على قيد الحياة بعد، لم تمت، ما زالت بك عافية تحتاجها للنهوض، بل إنك ما زلت قادراً على النهوض وعلى الفعل وعلى تحقيق ما كنت تحسب إنه أبعد مما تطال يدك أو يبلغ الخيال بالتمني.
المسألة إذن تتصل بك شخصياً، ما فعلته بك الحرب وما فتحته أمامك من أبواب واحتمالات، أكثر من اتصالها بمسوغات الحرب أو نتائجها المفترضة.
المسألة بوجهها الأول: أنت، الإنسان العربي، الإمكان، الأهلية، الجدارة، الثقة بالنفس، القدرة على الإنجازز
الوجه الثاني للمسألة: العدو الإسرائيلي وصورته المستقرة في الذاكرة العربية منذ أربعين سنة أو يزيد. وهي صورت جبار عات “وسوبرمان” لا يهزم، برغم ما أصابها من تصدع في مواجهة 1956 ثم في حرب تشرين المجيدة العام 1973، وعبر العمليات الفدائية الفلسطينية والمقاومة الوطنية في جنوب لبنان بعد اجتياح العام 1982.
ولقد استعادت صورة إسرائيل تماسكها وصلابتها من خلال الحروب العربية ضد الذات أو ضد الصديق، والتي غرق فيها العرب، مشرقاً ومغرباً، وشغلوا بها عن كل ما عداها، وأبرزها وأخطرها الحرب العراقية ضد الثورة الإسلامية في إيران.
وعبر الحرب الأهلية في لبنان بأطوارها المتعددة، وبالدور الإسرائيلي التخريبي الدائم فيها، ثم عبر السيادة الجوية الإسرائيلية على السماء العربية، وعبر التفوق العسكري شبه المطلق،
والأهم والأخطر: بعد خروج مصر من إرادة التحرير العربية وعلى إجماع الأمة إن بالنسبة لقضية فلسطين أو بالنسبة للموقف من العدو الإسرائيلي، ومن بعده القوى التي وفرت له التفوق وجعلته على الدوام أقوى من العرب مجتمعين وقادراً على إرهابهم وإخضاعهم لإرادته ولمشاريعه التوسعية.
بعد هذا كله اكتسبت “إسرائيل” ملامح القدر، وتسلل جبروتها إلى مكامن الحس، خصوصاً وقد أكده العجز العربي عن مواجهتها، فصارت مواجهتها أو حتى التصدي لهيمنتها أو الاعتراض على سياساتها وقراراتها أقرب إلى المستحيل.
حتى مع تطور مثير وخطير كاستقدام ملايين اليهود من الاتحاد السوفياتي واصقاع أخرى في أوروبا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، واقطاعهم أرض فلسطين وسائر الارض العربية المحتلة وزرعهم فيها جنوداً للتوسع وحرساً للإمبراطورية العتيدة (إسرائيل الكبرى)،
حتى في مواجهة مثل هذا التطور لم يجد العرب ما يفعلونه غير “الضغط” على الاتحاد السوفياتي لكي يستخدم “صداقته” المستجدة مع الولايات المتحدة الأميركية، لعلها تضغط على حليفها الاستراتيجي إسرائيل، بحيث يحصر المستوطنين الجدد (مواطنيه – جنوده الجدد) في الأرض الفلسطينية المحتلة ولا “يفلشهم” على كل الأرض العربية المحتلة المفتوحة أمام سلاحهم كمشاع بلا صحاب!
المسألة هي في أحد وجهيها: الإمكان، القدرة على الإنجاز،
والمسألة في وجهها الآخر: العدو الإسرائيلي وجبروته وقدراته “الخارقة”!
وحين رفع الرئيس حافظ الأسد شعار “التوازن الاستراتيجي”، فهو إنما كان يحاول رفع مستوى “الإمكان” من وهدة عدم التكافؤ التي سرعان ما تنفتح على جحيم العجر المؤدي إلى الاستسلام المطلق.
وبالمقابل فحين انحرف أنور السادات وفرط بحقوق أمته مفترضاً إن الأمر ينتهي بكسر “الحاجز النفسي”، فهو إنما كان يسجن الأمة في قبر العجز الأبدي، ملغياً إمكاناتها وقدراتها الفعلية ووزنها ودورها المؤثر، والأخطر من هذا كله: ملغياً الاحتمال، أي الأمل، أي حق الأجيال الآتية في تقرير ما يخصها من مصيرها.
المسألة إذن هي: حماية اليوم، ومعه بل ربما قبله حماية الغد.
بكلام أوضح فليس بين العرب – كمواطنين – خلاف أو اختلاف على هوية أطراف الصراع واين يجب أن يقفوا من كل منها.
لكن بينهم خلافاً أو اختلافاً على توصيف الفعل ووظيفته السياسية والقدرة على حماية النتائج المرتجاة، في ما لو تحققت.
بالتبسيط المخل يغدو الأمر صراعاً بين الحلال والحرام، بين الحق والباطل، بين العرب والأميركان (أو الغرب عموماً)، بين قضية فلسطين والعدو الإسرائيلي،
وبالتبسيط إياه فلا مجال للمقارنة ومن ثم للخيار،
فلا يوجد عربي واحد خارج نادي “شفيطة النفط” يمكن أن يتردد في الانحياز لجيشه العراقي المشتبك مع أعتى قوى الكون وأعظمها قدرة على التدمير،
وبالموقف المسبق المشبع بمرارة التجارب والأحقاد المعتقة يتم التركيز على الشخص وتلغى الجوانب الأخرى الأبقى والأهم: العراق، بشعبه وجيشه وإنجازاته، القضية القومية، الأمة بتاريخها وحاضرها ومستقبلها.
وإذا كان التبسيط مؤذياً وقد يؤدي إلى استنتاجات خاطئة وربما إلى نتائج مدمرة، فإن “الخلط بين الفعل والأداة، بين الشخص والقضية، بين الحاكم والأمة، يواصل عبر حركة اكتمال الدائرة إلى النتائج ذاتها،
صدام حسين مخطئ، لكن العراق عربي قبل الخطأ وبعده،
وصدام حسين مخطئ ، لكن إسرائيل هي العدو، قبل الخطأ وبعده،
وفي مواجهة صدام حسين وكشف الخطأ في غزوه الكويت كان المنطق القومي هو المعيار،
ولأن المواطن رأى في ذلك الاجتياح خطيئة مميتة، فهو قد وقف ضده ورفضه ودعا إلى التراجع عنه، ومن منطلق الحرص على العراق والأمة وقضيتها وليس بدافع الإشفاق على آل الصباح أو الانحياز لبعض شيوخ النفط في مواجهة الحملة الوحدوية المظفرة المستعيدة تراث بسمارك،
فهل يجوز تغييب هذا المنطق القومي متى امتد الحديث أو الفعل إلى إسرائيل؟
المسألة: هل إن صدام حسين ذاهب حقيقة إلى فلسطين أم لا؟!
ليس الذهاب أو الزحف إلى القدس هو، بحد ذاته الخطأ، بل الخطأ الأفظع من جريمة، أن ترفع لافتة فلسطين في حين تكون الكويت هي محط الرحال،
وليس قتال إسرائيل أو مجرد إيذائها المحدود هو موضع النقاش وما إذا كان القتال صحيحاً أم لا،
السؤال: هل القتال ضد إسرائيل هو المطروح الآن؟!
التبسيط مؤذ وقد ينتهي إلى استنتاجات مدمرة،
لكن المواطن العادي يميل إليه، خصوصاً وإنه يضع المسائل أمامه بلونين لا ثالث لهما: أبيض أو أسود.
ولهذا فإن العرب الذين كانوا ضد حرب لم يعدوا ولم يستعدوا لها، ولم يقتنعوا بأسبابها ومبرراتها، هم الآن “عراقيون” بمشاعرهم الملتهبة… فهم الضحايا وذوو الضحايا وحاملو دم الضحايا.
خصوصاً وإن هذه الحرب قد أعطتهم الدليل الحسي على إن الكيان الإسرائيلي ليس بيضة رخ وليس حصناً من الصلب والاسمنت المسلح لا يمكن خرقهز
لقد وفرت لهم هذه الحرب، التي يعرفون إنهم لن يكسبوها، الفرصة لإعادة اكتشاف “الامكان”، القدرة على الإنجاز، الجدارة، الأمل بتغيير واقع العجزالقائم.
لقد فتحت في ليل العجز كوة تمنح أجيالنا الجديدة الثقة بأنفسهم وبقدرتهم على تحقيق ما سقط دونه آباؤهم،
… وليس مهماً، بعد ذلك، من ينتصر في الجدل حول السبب والنتيجة،
ومرة أخرى: إلى جهنم المسبب والمستفيد، المهم ألا تخسر الأمة نفسها، وأن تحمي ما تمكن حمايته من أملها في غد أفضل، وربما في غدا ما ، أي غد!