… وبعد طول تردد، وكثير من المماحكة، شرب حزب الكتائب من نهر الجنون، وانضم إلى قافلة “الانقلابيين” بذريعة الانتخابات، بحجة حماية ذاته لدور وفاقي، مستقبلاً، وليكون صمام أمان في “الشارع المسيحي” وحصناً أخيراً يعصم البطريرك الماروني من أن ينجرف مع الموجة الانفصالية المتعاظمة.
وهي لطمة مؤلمة يوجهها إلى الحكم، بداية، هذا الحزب الذي أعاد صياغة نفسه عبر الطائف واتفاقه الشهير ليكون شريكاص في الحكم مع احتمال أن يكون خلفه أو وريثه في وقت لاحق.
لكن “الموقف الجديد” للكتائب يفقده التميز ويحوله من متبوع إلى تابع، ويعيده إلى الحظيرة التي كانت قيادته تسعى (أو تطمح) لأن تغادرها طلباً لهواء نقي وخروجاً من الشرنقة التي حصرها فيها ماضي الحزب الذي ظل مدموغاً بالفئوية حتى غادر آل الجميل وتراثهم الحافل.
أمس بدا وكأن الحزب ، أو ما تبقى منه يعود إلى بيت الطاعة، وكان أول من فهمه أو أراد أن يفهمه هكذا آل الجميل: أمين و”القائمقامه” أثناء غيبته إيلي كرامة وأرملة بشير الجميل… فدخلوا بيته المركزي مهللين لعودة الابن الضال إلى أحضانهم الدافئة.
بالطبع، يمكن للحزب أن يتذرع بموقف الحكم وسوء إدارته لمسألة الانتخابات بحيث حولها الارتجال والتشاطر والاعتداد بالذات والاستغناء عن الآخرين إلى مأزق سياسي خطير يمس أو يهدد الوحدة الوطنية في البلاد وليس فقط هيبة الحكم أو أهليته.
لقد انزلق الحكم إلى دور الطرف، أي إلى حيث تشتهي له “معارضاته” أن يكون، لكي تنقض عليه من موقع النقيض، أي الطرف الآخر، فتفقده صورته كمؤسسة جامعة، وكقيادة للبلاد كلها وليس لفئة منها، وكمرجعية نزيهة لا تتعصب ولا تنحاز ولا تخاصم ولا تستعدي أحداً، من دون أن تتخلى عن حقها الشرعي في محاسبة من يهدد أمن البلاد وسلامتها باسم أو بحكم المسؤولية الشاملة عن الدولة بشعبها وأرضها والمؤسسات.
فلكي تبرر المعارضات منطقها بجذره الانفصالي يجب أن يسلحها الحكم بسلسلة من الأخطاء في الشكل أو في المضمون، تنفعها في استثارة “جمهورها” المحتقنة مشاعره نتيجة فشل الرهان الفئوي المتطرف الذي قادته إليه مرجعياته السياسية المتلفعة أو المتسترة غالباً وراء ثوب كهنوتي، والمبررة ذاتها بقرار “دولي” غامض يتصل بسياق الصراع العربي – الإسرائيلي.
من هنا يبدو وكأن لا مجال لوساطة أو لحل وسط، ويتخذ المأزق السياسي في ظل الهياج الطائفي بعداً خطيراً يصب خارج مصلحة لبنان (الدولة ومشروع الوطن) ويمس بعض ركائز استقراره بل وسلامته وأولها وأهمها علاقاته مع الشريك (بل الضامن) السوري.
فالمعارضات تقاتل الحل في شخص الحكم، وتقاتل لإسقاط تسوية الطائف بنتائجها الملموسة (إعادة صياغة السلطة عبر الاصلاحات الدستورية) عبر الهجوم الفئوي على سوريا. إنها تركز على أضعف حلقات الطائف: الحكم الذي جاء باسمه، وهو في الوقت ذاته أضعف حلقات الدور السوري.
إنه الهجوم المضاد الشامل يشنه “المركز”، أي المارونية السياسية المنتمية أو المنتسبة إلى جبل لبنان (الإمارة – المتصرفية – لبنان الكبير) على الحل بما هو مشروع مصالحة وطنية.
إنه خروج على ثوابت الوحدة الوطنية،
فإذا كانت الحكومة، أو الحكم برمته قد قصر في الاتصال والمشاورة والاستئناف ومراعاة خواطر بعض المرجعيات التي تعودت أن يكون رأيها في صلب القرار السياسي،
فإن “المعارضات” لم تكلف نفسها عناء المناقشة أو محاورة أي طرف سياسي خارجها، بل إنها لم تتحاور في ما بينها. كان لسان حالها دائماً: نحن غير معنيين بكل ما يطرح ويبحث.
إنه المشروع الانقلابي إياه يطل برأسه، مرة أخرى، وقد اعتمر الآن القلنسوة بدل القبعة العسكرية، يحف به ويحميه هذا الموقف الأميركي المحرض (علناً) وهذا الموقف الفرنسي المؤيد علناً للمبدأ والقائل بالتأجيل، وهذا الموقف الفاتيكاني الهارب إلى التاريخ بينما رجال الاكليروس يدورون في المناطق لاستنفار العامة ودفعها إلى … المجهول!
… وهو موقف ابتزازي مرشح لأن يصبح قاعدة أي “حوار” في المستقبل: فعند أي خلاف سيشهر سلاح التهديد بالانفصال، على قاعدة طائفية لإحباط أي إصلاح أو أية تسوية أو أي توكيد لالتزام لبنان بدوره القومي، وبالذات في الصراع العربي – الإسرائيلي، حيث لا مجال لتفرده أو لابتعاده عن الموقف السوري ولأسباب وطنية لبنانية قبل أن تكون قومية وحدوية.
إن ثمة أصواتاً مهووسة ترتفع الآن بشعار “الحكم الذاتي”، تشبهاً بالفلسطينيين… وهو شعار خبيث مضمونه الحقيقي لا يختلف عن تلك الشعارات التقسيمية التي رفعت على امتداد الحرب الأهلية من “المجتمع المسيحي” إلى “الوطن القومي المسيحي” مروراً باللامركزية السياسية.
إنها “الأصولية المسيحية” تصول وتجول في “الشارع” الذي لم يستطع الحكم أن يملأه أو أن يكسبه ولا خاصة أن يقنعه.
وثمة قوى دولية وعربية تشجع هذه الأصولية وتدفعها إلى الإيغال في مغامرة الجنون التي تدفع البلاد إليها.
ولن يبكي أحد، غدا، على هذه الأصولية وهي تعاود الانتحار، مرة أخرى، بإصرار عجيب على تكرار المأساة التي تتجاوزها لتصيب لبنان كله بأفدح الضرر في حاضره ومستقبله، وربما في وجوده ككيان سياسي.
والسؤال: من يوقف هذا الجنون الذي خبره اللبنانيون، على اختلاف فئاتهم، جيداً، ودفعوا ثمنه غالياً من دمائهم وأرزاقهم ومن حلمهم في وطن لجميعهم، تسوده العدالة وتؤهله حيوية إنسانه لأن يكون رائداً بين العرب في تقدمه وفي دوره الذي لا غنى لهم عنه؟!
والمؤسف أن الجواب على هذا السؤال لا يتوفر عند اللبنانيين ، في غياب الحكم الحقيقي الذي لو كان موجوداً لما طرح السؤال.