سيحرق كثير من البخور، الآن ولمناسبة اضطرار نيكسون إلى الاستقالة على عتبة الديمقراطية الأميركية،
وسيراق كثير من الحبر في امتداح سلامة المؤسسات القضائية والتشريعية والتمثيلية في البلاد التي اشتهرت، أكثر ما اشتهرت، بالتروستات الاحتكارية ذات القوة الساحقة وبتزعم المعسكر الإمبريالي المعادي بطبيعته لنضالات الشعوب وحقوقها القومية وطموحاتها المشروعة إلى غد أفضلز
وستختفي مؤقتاً عن السطح طبيعة الصراعات السياسية التي خاضتها على قمة السلطة، قوى تنتسب جميعاً إلى النظام ذاته لكن مصالحها متباينة، فأدت هذه الصراعات إلى اختلال التوازن ومن ثم إلى سقوط نيكسون المسكين للذي انتخب مرة، ثم أعيد انتخابه مرة أخرى لأنه كان يمثل نقطة التقاطع بين المصالح المختلفة وبالتالي يحقق التوازن بين تلك القوى في ظروف محددة.
سيقال ببساطة الآن: إن نيكسون تورط في قضية تجسس على الحزب المنافس فاجتزت الديمقراطية الأميركية رأسه ودحرجته على الأرض ليكون عبرة لمن يعتبر!
وأين؟! في بلاد المخابرات المركزية الأميركية التي تتباهى علناً بأنها تتجسس على كل شيء حي في أربع رياح الأرض.
وفي بلاد لا يصل فيها إلى سدة الحكم، في الأغلب الأعم في الحالات، إلا من أمضى زهرة شبابه في خدمة أكبر جهاز للتجسس في العالم، بغض النظر عن المنصب أو المناصب العلنية التي تقلب فيها.
وفي بلاد احترف نظامها هدر دماء الشعوب، واستلاب خيراتها، واغتيال زعمائها الوطنيين بالقتل أو بالانقلاب أو بالثورات المزيفة التي يصطنعها عملاء المخابرات المركزية الأميركية.
على إن أكثر ما يستوقف في كون نيكسون قد “استقيل” حقيقة بسيطة هي إن النجاحات الخارجية، مهما اشتد بريقها، لا تفيد في ترمم وضع داخلي متصدع وآيل للسقوط.
فنيكسون حقق ما لم يحققه رئيس أميركي من النجاحات لسياسة بلاده ولمصالح أصحاب المصالح فيها، فيما وراء البحار، تستوي في ذلك نتائج “الوفاق الدولي” و”معجزات” الساحر كيسنجر في جنوبي شرقي آسيا أو في المنطقة العربية، والانتصارات الباهرة التي سجلها “اليانكي” على شعوب أميركا اللاتينية، أو سجلها الدولار على النزعة الاستقلالية في أوروبا الغربية.
لكن مأساته كانت تكمن في وضعه الداخلي الذي ظل ضعيفاً وهشاً منذ لحظة انتخابه رئيساً، بسبب استحالة الاتفاق على مرشح قوى أولاً وأخيراً.
وفي مواجهة هذا الوضع الضعيف لم تفد النجاحات الخارجية إلا في تأجيل لحظة الحسم، بانتظار أعداد الرئيس القادر على توظيف هذه النجاحات في خدمة أصحاب المصالح الكبرى دون أن يكون له جميل الدائن أو شروط البطل أو مطالب الشريك المضارب.
لا ملايين المستقبلين في القاهرة والإسكندرية، ولا ترحيب الملوك والرؤساء العرب في العواصم الأخرى، ولا إعادة ضخ النفط العربي على جيوب مستثمريه الأميركان، ولا اتفاقيات فك الارتباط في سيناء والجولان (والأردن).
لا شيء من هذا كله، ولا هذا كله، نفع نيكسون الذي بدأ صهيونياً وانتهى في عيون بعض حكامنا قومياً عربياً متعصباً!
وهكذا تركهم للوحدة والقلق و”السلام” المعلق والأزمات الاقتصادية المتفجرة، وراح..
أي أنه تركهم في مواجهة أوضاع داخلية أكثر تعقيداً وقسوة من ذلك الذي عجز عن التصدي له والصمود أمامه.
فلا هم أفادوه ليمد إقامته يوماً في البيت الأبيض.
ولا هو زاد من قدرتهم على الاستمرار يوماً واحداً في قصورهم،
ولم يتبق أمامهم غير واحد من خيارين: الاستعداد للحرب التي قد تشنها إسرائيل في أية لحظة، أو الاقتداء به والخروج مع الاحتفاظ بالحد الأدنى من ماء الوجه.
وأغلب الظن إن عرب نيكسون الذين عجزوا عن تحويل إيجابيات حرب رمضان إلى نصر حقيقي وكامل، لأنهم – مثل نيكسون – عزلوا شعوبهم تماماً عن ساحة الصراع، سيخرجون بدورهم.. مع فارق واحد: إنه خرج بماء وجهه كما يقولون!