طلال سلمان

على الطريق مورفي في دمشق مجدداَ: “اتفاق محدود” حول لبنان؟

برغم إن عقول اللبنانيين، أو معظمهم ، في إجازة بسبب الحمى الرئاسية ومضاعفاتها الخطرة، إلا أنهم يعرفون – بعد – إن العلاقات الأميركية – السورية لا تبدأ بلبنان وبمعركة الرئاسة فيه ولا تنتهي عندهما.
وبرغم كل ادعاءات اللبنانيين، أو معظمهم، حول انشغال الكون بوطنهم الصغير، أو حول المخاطر التي يشكلها وضع لبنان المأساوي على قضية السلام والتقدم ومسيرة الحرية والحضارة في العالم، فإنهم من التواضع – بعد – بحيث يمكن أن يدركوا إن لبنان – بكل عظمته – هو بند تفصيلي من بنود ما يسمى، عادة، “أزمة الشرق الأوسط”، وهي التسمية الغربية للصراع العربي – الإسرائيلي.
على هذا فهم لا بد يفهمون أن يكون الاتفاق أو الاختلاف على لبنان، ومن ثم على صيغة الحكم وشخص الرئيس الجديد فيه، انعكاساً مباشراً لدى التوافق أو التعارض في المصالح، وبالتالي في المواقف، بين دمشق وبين واشنطن، من مجمل الوضع في المنطقة وتطوراته المحتملة.
فلأن لبنان “بعض” هذه المنطقة، هو جزء منها وهو فيها، يؤثر ويتأثر بأحوالها وبالمستجدات فيها، وما أكثرها طالما ظل الصراع فيها وحولها مفتوحاً وهو سيبقى مفتوحاً في المدى المنظور.
ولأن معركة الرئاسة فيه وقعت في لحظة سياسية لها أهميتها الاستثنائية في سياق التطورات الكبرى التي تشهدها المنطقة،
ولأن لبنان، وبغض النظر عن الرغبة والعواطف، في قلب الموضوع الفلسطيني، وعلى تماس عدائي مع الكيان الصهيوني الذي ما زالت قواته تحتل أجزاء من جنوب لبنان وبالتالي بعض إرادة لبنان وبعض قراره السياسي،
لهذا كله يعود ريتشارد مورفي إلى دمشق، في محاولة جديدة لاستكشاف نقاط توافق، أو لحصر نقاط التعارض في المواقف وفي المصالح بين الدولتين المؤثرتين جداً، على صعيد المنطقة، بحيث يمكن تمرير انتخابات الرئاسة في لبنان بما لا يخل بميزان القوى القائم، مع التذكير دائماً بأن إسرائيل طرف فيه حتى لو حجبها غالباً الحضور الأميركي المباشر.
لم يأت ريتشارد مورفي في المرة الأولى لكي يعلن الحرب على آل فرنجية في دمشق،
ولا هو آت الآن لكي يصالحهم،
فلقد جاء وزير الخارجية لاأميركي جورج شولتس، من قبل إلى دمشق مرات عدة في فترة قصيرة جداً، وفي الفواصل بين زيارات شولتس جاء “الوزير” الآخر أي مندوب الولايات المتحدة الأميركية في الأمم المتحدة فرنون وولترز، وجاء مورفي نفسه، وجاءت “ساحرة” المسترئسين اللبنانيين ابريل غلاسبي، وتحرك السفير الأميركي وليم ايغلتون، وحركناه من بيروت حتى أتعبناه فتحول إلى تركيا…
وبالطبع لم يأت هؤلاء جميعاً لكي يبحثوا مع دمشق في الخلف الصالح للشيخ أمين الجميل،
كانت موضوعات البحث أخطر بكثير، ولا ريب، وأشمل، وأكثر أهمية من أن تتمحور حول “شخص” الرئيس اللبناني الجديد أو برنامجه الاصلاحي العتيد.
على أن توافد هؤلاء جميعاً على دمشق وتطرقهم فيها إلى الشأن اللبناني يؤكد على حقيقتين بسيطتين يتجاهلهما في العادة منطق المستغربين من اللبنانيين:
*الأولى – إن لبنان، بوجوده ومصيره، ومستقبل نظام الحكم فيه، هو جزء من واقع المنطقة السياسي، لا يمكن عزله عنها واستفراده واختلاس الرئاسة فيه، مرة أخرى، على غرار ما حصل في صيف 1982 وكنتيجة مباشرة للغزو الإسرائيلي.
*الثانية – إن الحكم الانقلابي الكتائبي قد أفقد لبنان أهليته لأن يتم أي بحث بشأنه مع سلطاته وقواه السياسية ومراكز التأثير فيه.
وإن هذا الحكم الانقلابي الكتائبي، وبوصفه ثمرة للغزو الإسرائيلي، ومن ثم بوصفه خروجاً فجاً على حقائق الحياة والسياسية، في المنطقة، قد ألغى دور بيروت وأعطى دمشق الشرعية والأهلية لأن تتولى قيادة الصراع، خصوصاً وإن موضوعات الصراع (الهوية، الانتماء، الدور السياسي والاقتصادي والثقافي والإعلامي الخ) تمسها مباشرة.
ذلك إن هذا الحكم قد نقل لبنان أو حاول نقله من موقعه الطبيعي في محيطه العربي، وفي أي حال قد حوّر طبيعة العلاقة العدائية مع العدو الإسرائيلي فبرر له أو كاد يبرر استمرار احتلاله لبعض جنوبه.
والأهم إنه جعل دمشق معنية مباشرة بشأن مستقبله السياسي، إضافة إلى حدوده الجنوبية، لأنه بات يشكل مصدر تهديد وثغرة يمكن أن يتم منها، وفي أي وقت، اختراق محتمل لأرضها وأجوائها.
لقد اختلفت طبيعة النقاش بين دمشق وبين بيروت،
في الماضي كان النقاش يتركز حول وجوه التعاون وأشكاله، وهل يجب أن تصل إلى التكامل أم تنحصر ضمن ما لا يمس السيادة والاستقلال والمصالح القطرية،
وكانت تنشب أزمات، بين الحين والآخر، لأسباب تمس الأمن وسلامة النظام، ولكن بشكل محدود، في الغالب الأعم،
أما في مرحلة ما بعد غزو 1982، وفي ظل حكم الانقلاب الكتائبي، فقد اختلف الأمر جذرياً، وصار بين هموم سوريا أن تحمي أمنها من مخاطر يمكن أن تأتيها من الخاصرة اللبنانية التي تحتلها إسرائيل، أو يمكن أن تستخدمها إسرائيل بتواطؤ من الحكم اللبناني نفسه.
لقد فقد الحكم اللبناني أهليته، بالمعنى القومي، أي بمعنى التزام لبنان بموجبات الدفاع عن حدوده ومن ثم عن الأرض العربية بعدها، وهي أرض سورية،
وأفقد الحكم الانقلابي بممارساته الداخلية، النظام اللبناني الكثير من أهليته، لأنه ضرب روح الاعتدال فيه، وسعر الحروب ضد الطوائف الأخرى حتى بات مصدر خطر على شعبه ذاته ثم على المنطقة برمتها، وأولها سوريا.
لكن هذا حديث آخر، فلنعد إلى ريتشارد مورفي ومهمته الجديدة – القديمة في دمشق،
من المنطقي الافتراض، إن ريتشارد مورفي قد أتى بجديد يعزز احتمال التواصل إلى تفاهم ما، الأرجح أن يكون محدوداً، ما بين دمشق وبين واشنطن حول لبنان ومستقبل الحكم فيه،
فلا ضرورة لأن يعود إلى دمشق لكي يؤكد على الاختلاف معها والدخول في صراع مفتوح على لبنان ورئاسته العتيد،
ذلك أمر كان يكفي لإحداثه الاعتصام بحبل الصمت، والامتناع عن استئناف الحوار،
لكن الواهمين وحدهم يمكن أن يفترضوا إن مورفي عاد إلى دمشق لكي يبلغها إن واشنطن – عادت بعد تفكير – فقررت أن توافقها على خططها واستراتيجيتها في المنطقة، وفي لبنان تحديداً.
لقد عاد مورفي ليحاول الوصول إلى اتفاق محدود بين مختلفين،
وأقصى ما يمكن توقعه أن يسمح مثل هذا الاتفاق المحدود بتمرير “رئيس جديد” مستعد للالتزام ببرنامج إصلاحي يتم تنفيذه في عهده،
أما حده الأدنى فهو أن يتم “تمرير” حكومة انتقالية موسعة تكون بمثابة “هيئة للحوار الوطني” تسير شؤون المواطنين وتتولى – عبر نقاش مفتوح يشارك فيه الجميع – إعداد صيغة جديدة للبنان الجديد.. لبنان ما بعد عهد الانقلاب الكتائبي.
ولعلنا بفضل انتفاضة شعب فلسطين في أرضه، وبفضل الصمود السوري في وجه الضغوط الأميركية والتهديدات الإسرائيلية، نستطيع أن نحصل على “هدنة” أطول تسمح لنا بالتنفس، وبإعداد العدة لاتفاق قابل للحياة.
… وحتى الأميركيون يجيئون إلى لبنان عن طريق دمشق التي ما زال يهددها بعض “اللبنانيين” بأن يفرضوا عليها – وعلينا – رئيساً توافقياً… مع نتائج الغزو الإسرائيلي للبنان في ذلك الصيف الأسود من العام 1982.
والأمل أن يكون مورفي أكثر حرصاً على لبنان من “حلفائه” فيه ممن تبنى “فيتواتهم” وشروطهم في رحلته الأولى فعاد منها بذلك النجاح الباهر،
… وصيف 1988 مختلف جداً عن صيف 1982، في لبنان وفي المنطقة وفي العالم،
وإسرائيل ذاتها أكثر من يعرف هذه الحقيقة؟
ومورفي أيضاً…
ولهذا عاد إلى دمشق،
والمهم أن يعي اللبنانيون، جميع اللبنانيين، هذه الحقيقة، ليسهلوا الوصول إلى “الاتفاق المحدود”.. المرتجى!

Exit mobile version