طلال سلمان

على الطريق مؤتمر… السلام على فلسطين رحيل المتفائل علي صبري و”الزعيم” يوسف ادريس

من المؤتمر الإسلامي المنعقد الآن في رحاب “الدولة العلية” سابقاً، تركيا، إلى الرباط حيث أمير المؤمنين والخليفة المعاصر ورئيس لجنة القدس، مروراً بعمان الشريك – الوكيل، وتونس حيث مقر منظمة التحرير، تدور رحى معركة التفاف خطير على القضية الفلسطينية قد تسفح ما تبقى من دمائها على عتبة “المؤتمر الدولي للسلام”.
جيمس بيكر يستكمل خطته ببرود أعصاب قاتل ينذر الفلسطينيين بأنهم إن هم غابوا عن المؤتمر العتيد يكونون قد خسروا فرصتهم الأخيرة، ثم يعمل بلا كلل ليجعل حضورهم في المؤتمر شكلياً إلى أقصى حد ومؤذياً لقضيتهم، فإذا رفضوا تحملوا المسؤولية (تاريخياً) وإذا قبلوا كانوا كمن يسلم بإلغاء حقه في أرضه فيخسرالجغرافيا والتاريخ معاً.
الكل على الفلسطيني… بما في ذلك القيادة الفلسطينية.
والأقسى هم الأقربون من الأهل: العرب بمعظم أنظمتهم، والمسلمون بكامل هيئاتهم الحاكمة،
ففي ما عدا سوريا وليبيا ولبنان (؟!) يبدو وكأن الكل متعجل لأن يخلص من هذه المسالة المعقدة والمتعبة التي تحرمه الأمن والأمان وهناءة العيش في ظل السلام (ولو إسرائيلياً) والتمتع بما تبقى لديه من مال منكوز.
فإسرائيل تقبل بفلسطيني له مواصفات خاصة جداً بحيث يستحيل أن يكون فلسطينياً. إنها تسقط أربعة ملايين (الخارج أو الشتات) بداية، وتسقط الرمز الأقدس (القدس)، وتشطب كل من حمل حجراً أو هم بقذف زجاجة حارقة أو شارك في الانتفاضة (أي الأكثرية الساحقة الماحقة من أهالي الضفة الغربية وقطاع غزة)… وهكذا لا يتبقى إلا أعضاء الكنيست من نواب بدو النقب المتحدرين من أصل فلسطيني (جغرافيا)، وربما بعض المنتمين إلى قوات حرس الحدود!
ومعظم القوى العربية والإسلامية تضغط على الفلسطيني ليقبل بهذا العرض السخي.
وبيكر يجول فيجمع من العواصم العربية والإسلامية الأجزاء المتقطعة من الجسد الفلسطيني، ويقيس ما تبقي ليتأكد من أنه لن يكون عامل تخريب لمؤتمرالصورة الوحيدة والجلسة الوحيدة… وكفى الله المؤمنين شر القتال!
وفي حين يمارس معظم الحكام العرب ضغوطهم على الفلسطيني حتى لا يُغضب الساعي بالخير، الأميركي، ترفض إسرائيل اقتراح انعقاد المؤتمر في فرنسا أو بريطانيا لأنهما في نظرها منحازتان إلى … الفلسطينيين!!
وبعد تبرع دول مجلس التعاون الخليجي بالمشاركة كمراقب (؟!) في هذا المؤتمر، لضمان إلغاء المقاطعة العربية أثر انعقاده،
ها هو بيكر يضمن تبرع الحسن الثاني بالعمل لإقناع شركائه في المغاربية في منح الرعاية للمؤتمر، وتوفير التغطية السياسية المطلوبة للفلسطينيين وهم يلغون أنفسهم.
بل إن بيكر يطلب من الحسن الثاني، رئيس لجنة القدس، أن يساعده على حل عقدة التمسك الفلسطيني بالقدس…
وقبل أن تثمر جهود ملك المغرب يبادر الرئيس المصري حسني مباركفيعلن تنازلاً عربياً جديداً، إذ يتبرع بالقدس للإسرائيليين، مشتركاً إبقاء الأماكن المقدسة الإسلامية (المسجد الأقصى، مسجد الصخرة الخ) في عهدة نفر من رجال الشرطة العرب!!
أما الملك حسين فينتظرأن يطلبه الجميع، والفلسطينيون بالذات، بوصفه “المخلص” أملا بأن يستنقذ الحد الأدنى من فلسطين المضيعة.
المؤتمرهو غير السلام.
والعرب يعملون بكل جهودهم من أجل مؤتمر يعرفون إنه لن يكون الطريق إلى السلام،
أما السلام فمكافأة إسرائيلية لكل عربي يوافق على شطب نفسه من الجغرافيا والتاريخ في آن.
إنه مؤتمر السلام… على فلسطين!
… على إن الكرم العربي الشهير لا يسمح بأن يكسف ملوكهم ورؤساؤهم الحليف الأكبرجورج بوش ويردوه خائباً وقد جاء يطلب عونهم في معركته الانتخابية.
المهم أن يكسب بوش الرئاسة الجديدة، ومع بوش الثاني نستعيد فلسطين الأولى، فإن ضيعها سلمت يده، كما قال شاعرنا ذات يوم!!
زمن الانطفاء: رحيل الكبار
في أسبوع واحد خسرت مصر ومعها العرب علمين من أعلامها، الأول في مجال العمل السياسي ذي البعد الفكري – الاجتماعي المتقدم، والثاني في مجال الإبداع الأدبي والفني ذي البعد السياسي – الاجتماعي المتقدمز
لقد رحل علي صبري الذي كان أحد أرقى ما قدمته ثورة 23 يوليو من نماذج الكفاءة السياسية العالية والصلابة الشخصية والشجاعة الأدبية التي تمثلت في ثباته على موقفه ثائراً وحاكماً وسجيناً (في عهد السادات) ثم معارضاً حتى يوم وفاته.
كذلك رحل يوسف ادريس وهو في القمة بين المبدعين العرب كأروع من كتب قصة قصيرة، ولعله أحد الأهم في العالم بأجمعه في هذا الفن الصعب، وكمجدد متميز في الكتابة المسرحية إضافة إلى الرواية.
إنه زمن الخسارة ووداع الكبار.
إنه زمن الانطفاء وسيادة منطق القطب الأوحد في الكون.
إنه زمن رحيل الأفكار العظيمة وحملتها من الرجال الكبار والذين طالما بشروا بغد أفضل فلما تبينوا ملامحه من خلال الحاضر طووا أعلامهم ليستقروا علامات لزمان الماضي الجميل.
علي صبري المتفائل الحزين
كان اللقاء الأخير في القاهرة حزيناً مع علي صبري.
كان متفائلاً بقرار شخصي بحت. يعرض الواقع في مصر وسائر الأنحاء العربية، ويتساءل : ماذا أصاب الجماهير، وإلى متى يمكن أن تستمر حالة الحذر والشلل والاستكانة التي تلغيها وتشطبها من أي معادلة سياسية؟ لكنه يخلص بعد العرض والتحليل إلى مكابرة علنية: لا يمكن لهذا الواقع المغلوط أن يستمر طويلاً. إنه ضد منطق التاريخ. لا يمكن أن يعود التاريخ القهقري، إنها مرحلة سوداء ولسوف تنتهي بتجدد حركة الثورة. إن الفقراء لا بد أن يتحركوا ضد المتسبب في تجويعهم وإذلالهم واستبعادهم عن القرار.
كان معنا المتفائل الآخر الواثق من سلامة تحليله المشابه، محمد فايق.
لم يكن ممكناً أن نقبل احتمال، مجرد احتمال، إن هذا السياق سيستمر.
فمن قاتل في فلسطين يصعب عليه أن يصدق إن إسرائيل تقاتله الآن في القاهرة ودمشق ومكة المكرمة والرباط، بعدما احتلت “كل” فلسطين ومعها بعض الأرض العربية خارجهاز
ومن نجح في تحقيق أول دولة للوحدة العربية يستحيل عليه التسليم بالردة وعودة الانفصالية أقوى مما كانت وأثبت، خصوصاً بعدما عمقتها الدماء المهدورة في الحروب الأهلية العربية التي نقل فيها الحكام خلافاتهم إلى “الأهالي”، فصار للعداء شعبيته في كل قطر ضد الآخر.
ومن رفع رايات مجتمع الكفاية والعدل وساند العمال والفلاحين في معركتهم المحقة لكي يتولوا السلطة أو يشاركوا فيها بوصفهم الأكثرية الساحقة عدداً وطاقة إنتاج وأصحاب مصلحة في التغيير، لم يكن ليسلم بأن تلك الأكثرية ستسمح بطي راياتها وستنتفض تاركة الميدان للانفتاحيين واللصوص باسم التدين أو باسم التطبيع مع إسرائيل، وللقائلين بالاستسلام للقدر الأميركي باعتباره الخيار الوحيد.
كان علي صبري حزيناً، لكنه يستمد من الحزن تفاؤلاً عنيداً بالمستقبل، ربما باستعادة تجربته الشخصية كواحد من الضباط الأحرار الذين قادهم جمال عبد الناصر لاختراق ليل الهزيمة واصطناع الفجر العربي الجديد قبل أربعين سنة ونيف.
وأمس حين التقيت محمد فايق في البقاع وجدته أعمق حزناً، بعد رحيل صديقه الكبير والقائد السياسي الصلب ورفيق السجن في بداية الانتكاسة التي أدت إلى الهزيمة الجديدة، لكنه أعظم تفاؤلاً بالمستقبل.
كان محمد فايق، يحمل في قلبه تفاؤل علي صبري كأمانة ليسلمها للجيل الثاني إن لم يستطع تحقيقها بنفسه: “فمصر قد تخمد لسنوات لكنها لا تموت. إن حركتها بطيئة وظروفها قاسية، لكن الغلط غلط ولا يمكن لجذوره أن تمتد عميقاً في أرض مصر. لقد رحل عبد الناصر، لكن مصر تحفظه في قلبها منارة تهديها إلى طريق المستقبل. ومصر أعظم من قادتها، وهي في الطريق… فاطمئنوا”
يوسف ادريس المبدع وحلم الزعامة
لم يكتب عربي القصة القصيرة كما كتبها يوسف ادريس، هذا المزيج الفذ من الروائي وعالم النفس والشاعر والمسرحي والحكواتي وخارق الحجب.
فقصة يوسف ادريس القصيرة أخطر تأثيراً من رواية ثم إنها في تصويرها للمشاعر والأحاسيس بكل تلك الشفافية المذهلة تكاد تقدم لك تلخيصاً لمجتمع بكامله في تلك اللحظة، مختلسة من القصيدة النمنمة الجمالية والنبوءة التي لا تخيب.
وحين اقتحم يوسف ادريس المسرح بذلك الحزين المعتق من التراث الشعبي حقق نقلة نوعية أسست لمدرسة جديدة تؤكد إن الإبداع الفني هو الذي يصل إلى الشعب، هو الذي يمثله ويرفع صوته، وهو الذي يوصله أيضاً.
وحين قدمت مسرحيته المجيدة “الفرافير” في أواسط الستينات كانت إعلاناً حقيقياً بأن الثورة قد وصلت إلى الأدب والفكر والفن، وإن المبدع يكون خلاقاً ومبدعاً بقدر ما يغوص داخل مجتمعه فيعرفه ويفهمه ويغرف منه.
لقد كان يوسف ادريس مزيجاً من الحالم والعالم،من دون كيشوت وفرويد، وكان في داخله “مشروع زعيم” سياسي كلما أطل برأسه أفسد عليه عمله الفني أو سلوكه الشخصي.
الكبار يرحلون ويتركون مزيداً من الفراغ في عالم من الخواء والانكسار والتفاهة يضيع فيه صدى السنين المجيدة التي اصطنعوها.
على كل جيل أن يصنع بنفسه يومه وغده.
وليس عبر تسمير البصر على الأمس يمكن استشفاف المستقبل، لكنك إن أنت أسقطت الأمس أسقطت معه الغد الأفضل وبقي لك… وهم مؤتمرالسلام!
على الهامش
يتوافد المسؤولون الأفارقة على إسرائيل زرافات ووحدانا للتفكير عن “ذنبهم” بقطع العلاقات معها، ذات يوم، تضامناً مع أصدقائهم العرب الذين هزمتهم في حرب 1967.
ويعيش من تبقى من المغتربين اللبنانيين في أفريقيا حالة قلق واضطراب وافتقاد إلى الأمان، ويواجهون ظروفاً من أقسى ما يكون زاد من تفاقمها عودة إسرائيل منتصرة إلى مختلف أقطار القارة السوداء.
وليست المأساة في أن الدولة في لبنان عاجزة عن تقديم العون، فيدها هي ممدودة بطلب العون من كل عابر سبيل،
… ولا في أن الدول العربية الساعية إلى الصلح مع إسرائيل لا يمكن أن تكون معنية بمكافحة تمددها في أفريقيا.
بل المأساة في أن هؤلاء المغتربين أنفسهم المهددين في أرزاقهم ووجودهم (وحتى في حياتهم) ما زالوا عاجزين عن التفاهم في ما بينهم، وبعيدين عن الوحدة، ينادون “جامعتهم” فلا تسمع، فإن سمعت عجزت عن الاجتماع، مجرد الاجتماع.
أليس مأساوياً أن تكون أمراض المقيمين قد تجذرت في المغتربين فزادت من فرقتهم وشتاتهم وقسمتهم “أميركيين” و”سوريين”، وبين بين، حتى ليتعذر تلاقيهم لاسيما في لبنانز
من يحاسب من؟!
هل تذعر الحساب في الداخل والخارج؟!
من أين سيجيء الغد الأفضل.

Exit mobile version