ينفرد العرب بظاهرة “الملوك المرتزقة”،
في العامة، يستأجر الملوك من يقاتل لهم ونيابة عنهم، وقد يحمون عروشهم من شعوبهم بطوابير من المرتزقة (الأجانب)،
أما أن يؤجر الملوك ألقابهم الشريفة، وأن يعملوا لحساب “عملاء للغير”. فيستضيفوا – كما أمير المؤمنين في المغرب – مؤتمراً اقتصادياً طلبته إسرائيل وهو مكرس لخدمة مصالحها في المنطقة العربية وعلى حسابها، فهذا جديد في التقاليد الملكية،
إن أمير المؤمنين يعمل الآن عند كلاوس شواب وليسلي غيلب، رئيسي المنتدى الاقتصادي الدولي (جنيف) ومجلس العلاقات الخارجية (نيويورك)، أي أنهما سمساران دوليان يؤجران خبرتهما وعلاقاتهما وقدراتهما التنظيمية لمن يدفع الثمن، أما لإسرائيل فهما يؤديان خدمة العلم..
وقبل أيام، سبق ملك شريف آخر، في الأردن، إلى استحداث ظاهرة جديدة حين أقدم على تأجير بعض الأرض التي يحكمها لإسرائيل،
يتصل بهذه الظاهرة الملكية تعاظم الهوس “العربي” إلى التنافس في التنازلات بوهم أنهم بذلك يحفظون لهم مكاناً في المستقبل،
فبحماسة منقطعة النظير ينتقل معظم الحكام العرب من الخسارة إلى محاولة تعويض الخسارة بخسارة جديدة أفدح،
لقد توهم هؤلاء العباقرة ، ذات يوم، إنهم يستطيعون بشطارتهم أن يعوضوا بالتنازلات السياسية ما خسروه بالحرب، وكأن الحرب خارج السياسة ومستقله عنها،
وها هم الآن يتوهمون أنهم سيعوضون في الاقتصاد ما خسروه في الحرب وفي السياسة. وكأنما الاقتصاد منفصل عن الحرب وخارج السياسية أيضاً.
لقد تنازلوا عن الأرض والسيادة والاستقلال وأحلام الزمن القديم،
وها هم الآن يتنازلون عن آخر ما كان تبقى في ايديهم، ولو نظرياً، أي الاقتصاد، فيسلمونه طوعاً إلى “الحكومة المركزية” الجديدة للمنطقة: إسرائيل!
إن ملوك العرب وساداتهم قد حولوا أنفسهم وببراعة وسرعة مذهلتين إلى سطور في كتاب شيمون بيريز “الشرق الأوسط الجديد”، ففضحوا قصور خياله، وتجاوزوا بإقبالهم أقصى تمنياته وتصوراته الشخصية.
وهذا الحشد في الدار البيضاء هو صورة مجسمة للهزيمة طوعاً، وبالرغبة، في حين كان مؤتمر مدريد – في بعض جوانبه – نتيجة منطقية للهزيمة بالقهر، واقتيد إليه المشاركون بمذكرات إحضار، وتصرف الوطني منهم فيه وكأنه يخوض أقسى الحروب وفي ظل أقسى الظروف وبما تبقى من السلاح، وهو قليل قليل.
لم يتعظ العرب من الصورة المأساوية لدول أوروبا الشرقية (المعسكر الاشتراكي سابقاً) وهي تتهالك على أعتاب الغرب مفترضة أنها وقد نبذت الأنظمة الشيوعية وأسقطتها فلسوف تحظى بالرعاية والدعم ومليارات الدولارات، وإنها ستستعيد كرامتها المهدورة وتعرف أخيراً طريقها إلى دنيا التقدم ويسمح لها بدخول العصر.
لم يشفع لروسيا يلتسين كل التنازلات التي قدمتها بسخاء “عربي”، في السياسة كما في الاقتصاد وفي الفضاء كما على الأرض، في ما هو فكري وثقافي وفي ما هو استراتيجي وعسكري.
وها هم طوابير الروس والبولونيين والهنغار والرومان يجوبون أنحاء الجنة الغربية، عارضين أنفسهم بأبخس الأثمان فلا يجدون حتى فرص العمل اليدوي الرخيص، وإن فتحت أبواب علب الليل لنسائهم وبناتهم كرقيق أبيض قليل الكلفة وبلا أولياء!
إن كل توقيع عربي يفتح الباب لاستثمار إسرائيلي جديد،
وما انتقال “الحكومة الإسرائيلية” برئيسها والأهم من وزرائها على المغرب غير دليل على ضخامة المكسب الذي حققته تل أبيب عبر هذا المؤتمر الذي طلبته فلبى أمير المؤمنين طلبها بغير نقاش،
وبهذا لم يعد المؤتمر مناسبة “لبيع جلد الدب” بعد صيده، بل إن “الدب العربي” قد تبرع بخلع جلده ليوفر على الصياد تعب المطاردة وثمن الطلقة وعناء المفاصلة مع الراغبين في الشراء.
الوقت من ذهب، بل إن الوقت عند إسرئايل “من عرب”!
وفي حين تسابق إسرائيل الزمن والاحتمالات التي قد تنضجها في غد تضحيات الماضي والحاضر، يتخلف العرب خارج الزمن، بل إنهم يتعجلون إلى بيع غدهم بأبخس الأثمان!
إن قادة العرب يمارسون رياضتهم المفضلة في الهرب إلى الأمام.
وهم بعد كل تفريط يقدمون عليه ينتظرون مكافأة فإذا بإسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية، تطالبهم بتنازل جديد،
وبحسبة بسيطة يتبدى واضطاً أن تجربة الصمود أقل بما لا يقاس من أكلاف التفريط والتنازلات التي ليس لها نهاية، والتي تتم مجاناً في الغالب الأعم.
وها هو المثل السوري (واللبناني) ساطع في دلالاته.
إن سوريا، الفقيرة والمحدودة الموارد، بالقياس مع المفرطين من أهل النفط، تكاد تملك حق النقض لكل المشروعات المطروحة للمنطقة.
إن حضورها هو الحضور العربي وغيابها هو الغياب العربي، برغم مشاركة أكثريتهم في محاولات التطبيع التي يجيء مؤتمرالدار البيضاء تتويجاً لها.
بالمقابل فإن “رمز القضية المقدسة” وعنوانها على امتداد ربع قرن أو يزيد، يتضاءل مكانة ودوراً كل ساعة، ويكاد يصبح متسولاً دولياً يطلب فلا يعطى، فإذا ألح نهرته الدول المانحة وأهانته علناً وأقامت عليه الإسرائيلي وصياً جبرياً.
إن الهرب إلى “العدو” لا يحل مشكلات أي حاكم داخل البلاد التي أخضعتها المقادير لسلطانه،
وإذاكانت إسرائيل تقدم نفسها، رسمياً وفي إطار ملكي مهيب، “الحكومة المركزية” لمنطقة “الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، فإن الحكام “السابقين” لأقطار تلك المنطقة يتحولون (بإرادتهم) إلى مجرد عمال مياومين لدى “السيد” الجديد.
إنهم يتسابقون إلى تقديم الطلبات لاعتمادهم في خدمة “السيد”،
إنهم يجيئون وليس في أيديهم غيرالاعتذارعن ماضيهم،
لا مال، لا قضية، لا أرض، لا دولة، لا دور ولا مكانة، والأخطر: لا احترام للذات وللتاريخ وللانتماء القومي.
ولسوف تعاملهم إسرائيل كما يقدمون هم أنفسهم، في أحسن الحالات.
إنهم لم يكونوا يوماً في مرتبة العدو لكي يطالبوا الآن بمرتبة الشريك.
لقد كانوا ينتظرون اكتمال دائرة الهزيمة ليلتحقوا بمعسكر “العدو”، الذي لم يقاتلوه جدياً في أي يوم.
إنهم في الدار البيضاء الآن يطمعون لحومهم للذي لا يريد منهم إلا لحومهم.
و”مؤتمر الصلح بالرغبة” الذي يعقد برعاية ملكية، سيظل كما المعاهدات الأخرى، مهدداً بطلقة واحدة.
فإذا كان تأجير بعض الأرض “كفراً” فإن تأجير كامل الوطن هو الارتداد بعينه،
والأمة ليست للبيع بأي حال..