لا مجال لحسن النية أو للسذاجة في فهم التدبير الأخرق الجاري اتخاذه بحق الصحافة في لبنان، فالقضية – بحجمها الحقيقي – أكبر من أن تكون ثأراً لكرامة الجيش، التي لم يمسها ولا يمكن أن يمسها أي صحافي.
القضية، بصورتها الأصلية، عملية إرهاب مباشر لحملة الأقلام في لبنان بذريعة واهية لا تفيد كثراً في إخفاء الغرض المقصود والذي كان تنفيذه ينتظر الفرصة الملائمة إلا.
والغرض المقصود هو إسكات، بل إخراس الصحافة في لبنان في “هذه المرحلة الدقيقة والحساسة والحرجة”، لتمرير المخططات والمشاريع المشبوهة التي يستحيل تمريرها طالما بقيت في المنطقة كلها شمعة مضيئة.
فوضع الصحافة في لبنان، على علاته، يشكل “شذوذاً” لا يمكن السماح باستمراره. فالشذوذ فضاح لطبيعة “القواعد” المخضعة لها الصحافة وأجهزة الأعلام الرسمية في معظم أرجاء الأرض العربية.
ولقد كان هذا “الشذوذ” مطلوباً عندما كان قابلاً للتوظيف لحساب الأنظمة المتناقضة، ومن هنا كان الحرص على دوامه إجماعياً، وكانت الغضبات الموسمية عليه لا تتجاوز إطار الضغط لمحاولة وقفه عند حد لا يتخطاه،
ومع التقارب المريع الذي “وحد” بين الأنظمة العربية، أو معظمها، تحول هذا الشذوذ إلى مصدر شغب وإزعاج للنظام العربي الواحد الذي يضع أسسه الآن العزيز هنري بعناية فائقة.
وإذا كان الحكم في مصر، على سبيل المثال، لم يعد قادراً على احتمال كتاب ومفكرين لم يشتهروا طيلة حياتهم بالتطرف، من أحمد بهاء الدين إلى مصطفى بهجت بدوي إلى محمد عودة وعبد الحميد عبد النبي وحسين عبد الرازق وفريدة النقاش، فمن باب أولى أن يكون هذا الحكم وغيره مما شابهه وماثله قد ضاق ذرعاً بهذه “الدوشة” التي تسببها الصحافة في لبنان، خصوصاً وقد شاءت لها “الأقدار” أن تصبح صحافة كل العرب.
الصمت، الخرس، البكم: هي مطالب الحكم العربي الواحد،
“دعونا نعمل بهدوء”: في الاتفاقات المنفردة لفك الارتباطات، العسكرية كما السياسية، النفطية كما المائية، الوطنية كما القومية، واستطراداً بالاصلاحية كما بالاشتراكية وبكل ما يحمل في طياته بذرة الوعد بتقدم.
وطالما إن الصحافة في لبنان تكاد تكون المعكر الوحيد لهذا الهدوء المريب وشبه الشامل، فلا بد أن توجه إليها التهمة ذاتها التي وجهها من قبل الذئب إلى الحمل في الحكاية الشهيرة.
على إن الصحافة في لبنان لا تستطيع أن تتراجع، في معركة كهذه، فرصيدها وقيمتها ووجودها ذاته مرتبط ارتباطاً عضوياً بالدور العربي المتعاظم الذي تلعبه الآن، والذي تشتد الحاجة إليه مع كل اتفاق جزئي جديد…
… وأي خدمة جلى للجيش، كمؤسسة وطنية، يريد أن يقدمها هؤلاء الذين دبروا هذه المجزرة للصحافة، لكي يعم الظلام الأرض العربية ويجتث كل من وما هو وطني فوق سطحها؟
وكل ما نرجوه هو ألا يكون هنري كيسنجر هو شاهد الإثبات الوحيد في هذه المذبحة المدبرة للحريات السياسية في لبنان،
وكيف يمكن لنظام يكمم أصحاب الأقلام فيه ويسجنون أن يزعم إنه يمت بأي صلة قربى إلى الحرية… ولو كانت صلة نفع وانتفاع لا أكثر ولا أقل؟
وكثيرون سيبكون الحرية في لبنان، وربما نظامه، إذا هم أخطأوا التقدير فأسعدهم – الآن – أن يروا نقيب الصحافة والصحافة كلها خلف القضبان،
فليس سجن نقيب الصحافة دليل عافية ودليل حياة، بل هو العكس تماماً… مهما حسنت النيات عند السذج، ومهما ساءت عند المنتفعين بعصر الظلام الآتي، والمبشرين بقدومه السعيد!