كان العرب جميعاً ينتظرون أن يسمعوا من الرئيس أنور السادات، ليلة أمس، ما يوضح الصورة الملغزة، المشوشة والتي تتزايد طلاسمها ومعمياتها يوماً بعد يوم.
لكن الرئيس السادات، ولأمر ما، فضل أن يقفز فوق موضوعات الساعة جميعاً، وأن يحصر كلامه بالشؤون الداخلية…
قفز فوق موضوع العلاقات المتنامية مع الولايات المتحدة الأميركية، بكل دلالاتها وانعكاساتها السياسية والاقتصادية سواء أعلى صعيد مصر أم على صعيد الوطن العربي كله.
وقفز فوق موضوع “التسوية”، تاركاً المجال فسيحاً أمام التخوفات من مستقبل لم ينكشف من ملامحه إلا ثقة مطلقة بكيسنجر، وتجميد للصراع مع إسرائيل، وتشهير بالاتحاد السوفياتي!
وقفز فوق موضوع العلاقات العربية، وبالتحديد علاقات مصر العربية: فلم يذكرسوريا بحرف، رغم حراجة الموقف العسكري والسياسي الذي تعيشه، ولا العراق، ولا ليبيا، ولا الجزائر.. ناهيك بالسعودية وإمارات النفط.
لكأنه قفز فوق النتائج الأكبر لحرب رمضان، التي لم تكن – قطعاً – حرباً مصرية، ولا كان يمكن أن تكون إلا عربية.. وكذلك نتائجها المباشرة وغير المباشرة.
.. هذا بينما تتعرض المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لأخطر هزة واجهتها منذ إقامة إسرائيل عام 1948، وتتعزز “الجبهة المدنية” فيها، رغم أن وجود إسرائيل نفسه مرتبط عضوياً بقوة المؤسسة العسكرية وبهيبتها التي ظلت تتعاظم حرباً بعد حرب حتى بلغت الذروة في أعقاب 5 حزيران 1967.
وبشكل ما يبدو وكأن الرئيس السادات يتقصد أن يعطي مصر صورة الدولة العادية، العادية باهتماماتها وبسياستها، في حين تفرض نتائج حرب رمضان على إسرائيل أن تهجر “المشروع الإمبراطوري” القديم لتستقر على صورة الدولة العادية، هي الأخرى، محتفظة من الأسطورة باسم موشي دايان – بطلها المعاصر – .. وباسمه فقط.
وهكذا يتضح ملمح آخر من ملامح مستقبل المنطقة، كما يريده كيسنجر، مصر بلا عروبة، وإسرائيل بلا جيش إمبراطوري… أي مجموعة من الدول العادية، يسود بينها نمط خاص من العلاقات العادية لا هو بالعدائي إلى حد الحرب، ولا هو بالسلمي إلى حد الصلح والاعتراف والتبادل التجاري!
بعد اللاحرب واللاسلم تم اللانصر واللاهزيمة ، كأننا الآن على أبواب “اللاعداء واللاصلح”.. تمهيداً لأن تسقط نهائياً اللاءات الأخرى: لاءات الخرطوم، وتنشر نتفها على سفوح الجولان وفي الضفة الغربية وغزة. فإذا صارت مصر “مصرية” فقد الكثير من الكلمات معناه.. وأول كلمة تفقد معناها هي كلمة “لا”.
وكما أن “نعم” مستحيلة مصرياً بغير العرب، فإن “لا” مستحيلة عربياً بغير مصر. وهذا المعنى هو الغائب الأكبر في خطاب الرئيس السادات.